Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 9-9)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وهنا أيضاً تبدأ الآية الكريمة بقوله سبحانه : { وَلَئِنْ } وهذا يعني أن اللام قد سبقت لتدل على القسم ، وكأنه يقول : لئن أذقنا الإنسان رحمة ، ثم نزعناها منه لوقع في اليأس . وهنا أيضاً قسم وشرط ، والقسم متقدم ، فالجواب يكون للقسم . وكلمة { أَذَقْنَا } توضح أن الإذاقة محلها الأول الفم ، ومعناها : تناول الشيء لإدراك طعمه : حلو أو مر ، لاذع أوغير لاذع ، قلوي أم حامض . ومن العجيب في دقة التكوين الإنساني أن كل منطقة في اللسان لها طعم تنفعل له ، فطرف اللسان ينفعل لطعم معين ، ووسط اللسان ينفعل لطعم آخر ، وجوانب اللسان تنفعل لطعم ثالث ، وهكذا . كل ذلك في عضو واحد شاء له الحق سبحانه هذه الدقة في التركيب . وكل " حلمة " من مكوِّنات اللسان لها شيء تحس به ولذلك نجد الإنسان يذوق الطعام ، فيقول : إن هذا الطعام ينقصه الملح ، أو يذوق الحلوى - مثل الكنافة - فيقول : إن السكر المحلاة به مضبوط . وكذلك حرارة الجسم ، يقيس الإنسان حرارته ، فإن وجدها سبعة وثلاثين درجة ونصف الدرجة فيقول : إنها حرارة طبيعية . وإن نقصت حرارة الإنسان عن ذلك يقال : إنه مصاب بالهبوط . وإن ارتفعت يقال : مصاب بالحمى . وهذا قياس للحرارة بالجملة لجسم الإنسان ، ولها المنافذ الخاصة بها . ولكن كل عضو في الجسم تلزمه درجة حرارة خاصة به ليؤدي عمله . فالكبد إن قلَّت درجة حرارته عن أربعين درجة لا يؤدي مهمته . وجسم الإنسان فيه جوارح متعددة وحرارة العين مثلاً تسع درجات لأنها لو زادت حرارتها عن ذلك لانفجرت العين ، وحرارة الأذن ثماني درجات . وأنت لا تستطيع أن تأتي بأشياء مختلفة الحرارة وتضعها مع بعضها ، ولكن الحق سبحانه وتعالى شاء ذلك بالنسبة للجسم الإنساني . وهنا يقول الحق سبحانه : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ … } [ هود : 9 ] . والذوق هو للإدراك ، لا للأكل ، فأنت حين تشتري فاكهة يقول لك البائع : " تفضَّل ذُقْ " فتأخذ واحدة منها لتستطيب طعمها . فالذوق - إذن - هو تناول الشيء لإدراك طعمه . والنعمة حين يشاء الحق سبحانه وتعالى أن تصيب الإنسان ، ثم تُنزَع منه ، هنا يصاب الإنسان بالقلق أو الحزن أو الهلع ، أو اليأس . والنعمة مهما قلَّت فالإنسان يستطيبها ، وإن نُزعت منه فهو يئوس كفور . واليأس : هو قطع الأمل من حدوث شيء ، ولأن الإنسان لا يملك الفعل ، ولو كان يقدر عليه لما يئس . والمؤمن لا ييأس أبداً لأن الله سبحانه هو القائل : { … إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 ] . اليأس - إذن - هو أن تقطع الأمل من أمر مراد لك ، ولا تملك الوسائل لتحققه . والذي ييأس هو الذي ليس له إله يركن إليه لأن الله تعالى هو الركن الرشيد الشديد ، والمؤمن إن فقد شيئاً يقول : " إن الله سيُعوِّضني خيراً منه " . أما الذي لا إيمان له بإله فهو يقول : " إن هذه الصدفة قد لا تتكرر مرة أخرى " . فالإنسان الذي يُسْرَق منه جنيه قد يحزن ، ولكن إذا ما كان عنده في المنزل عشرة جنيهات فهو يحزن قليلاً على الجنيه المفقود . والإنسان لا ييأس إلا عند عدم يقينه بمصدر يرد عليه ما يريده ، ولكن حين يؤمن بمصدر يرد عليه ما يريده فلا تجده يائساً قانطاً . والمؤمن يعلم أن النعمة لها واهب ، إن جاءت شكر الله عليها ، وإن سُلبت منه ، فهو يعلم أن الحق سبحانه قد سلبها لحكمة . والحق سبحانه وتعالى يقول هنا : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً … } [ هود : 9 ] . ونحن نعلم أن الإنسان مقصود به كل أبناء آدم - عليه السلام - وهم كثيرون ، منهم المؤمن ، ومنهم الكافر . وهنا تأتي كلمة " الإنسان " على إطلاقها ، ولكن الحق سبحانه وتعالى يستثنى المؤمن في موضع آخر حين يقول الحق سبحانه : { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } [ العصر : 1 - 3 ] . و " الإنسان " مفرد يدل على الإنسان في كل مدلولاته ، ويستثنى من نوع الإنسان من آمن به . فإن رأيت كلمة إنسان فاعلم أن المراد بالإنسان أفراد الإنسان كلهم . والإنسان لو عزل نفسه عن منهج الله تعالى فهو في خسران إلا إذا اتبع منهج الله ، فالمنهج يحميه من الزلل ، وتسير غرائزه إلى ما أراد الحق سبحانه لها . فقد خلق الحق سبحانه الغرائز لمهام أساسية ، فغريزة الجوع تجعل الإنسان يطلب الطعام ، والعطش أراده الله سبحانه وتعالى لينتبه الإنسان إلى طلب الارتواء بالماء . وغريزة بقاء النوع تدفع الإنسان للزواج ، وغريزة حب الاستطلاع هي التي تدفع الإنسان إلى كشف المخترعات . والحق سبحانه وتعالى هو القائل عن الساهين عن استكشاف آيات الله تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] . والباحث العلمي التجريبي المعملي ينظر في ظواهر الكون ليستطلع أسرار الكون . وهناك فارق بين حب الاستطلاع لاكتشاف أسرار الكون ، وحب الاستطلاع لأخبار الناس . إن حب الاستطلاع عموماً هو مدار التقاءات الكون ، ولكن الدين والخلق هو الذي يوجه حب الاستطلاع . إذن : فالقرائن لها مهمة يجب ألاّ تنفلت إلى غيرها ، والدين قد جاء ليعلي من الغرائز ويوجهها إلى مهامها . لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ … } [ الحجرات : 12 ] . أي : لا تتبعوا العورات لأننا لو أبحنا لواحد أن يتتبع عورات الناس لأبحنا لكل الآخرين أن يتتبعوا عوراته . وحين منع الحق - سبحانه وتعالى - الإنسان من تتبُّع عورات غيره ، فهو قد حماه من تتبع عوراته . وهنا يقول الحق سبحانه : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ . . } [ هود : 9 ] . وكلمة " النزع " تفيد أن الإنسان حريص على ما وهبه له الله تعالى من خير وصحة وعافية ويُسْر . وحين تؤخذ منه النعمة فهو يقاوم . والنزع يعني : استمساك المنزوع منه بالشيء المنزوع . ولذلك يقول الحق سبحانه في سورة آل عمران : { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ … } [ آل عمران : 26 ] . كأن الموجود في الملك يتشبث به جداً . وهنا يقول الحق سبحانه : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } [ هود : 9 ] . وفي نفس السورة يأتي الاستثناء ، فيقول الحق سبحانه : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ هود : 11 ] . وسنأتي لها بالخواطر من بعد ذلك . ويقول الحق - سبحانه وتعالى - في المقابل لمن نُزِعَتْ منه الرحمة واليئوس الكفور : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ … } .