Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 111-111)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ونلحظ أن هذه الآية جاءت في سورة يوسف أي : إنْ أردتَ قصة يوسف وإخوته ففي السورة كل القصة بمَراميها وأهدافها وعِظَتها ، أو المهم في كل قصص الأنبياء . يقول الحق سبحانه : { وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ … } [ هود : 120 ] . ونعلم أن معنى القَصَص مأخوذ من قَصِّ الأثر وتتبُّعه بلا زيادة أو نقصان . ويقول الحق سبحانه هنا : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ … } [ يوسف : 111 ] . وفي أول السورة قال الحق : { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] . ونعرف أن مادة " العين " و " الباء " و " الراء " تفيد التعدية من جَليّ إلى خَفيّ . والعِبْرة في هذه القصة - قصة يوسف - وكذلك قصص القرآن كلها نأخذ منها عِبْرة من الجَليِّ فيها إلى الخَفيِّ الذي نواجهه فلا نفعل الأمور السيئة ونُقدِم على الأمور الطيبة . وحين نُقبل على العمل الطيّب الذي جاء في أيّ قصة قرآنية وحين نبتعد عن العمل السيء الذي جاء خَبرُه في القصة القرآنية بذلك نكون قد أحسنَّا الفهم عن تلك القصص . وعلى سبيل المثال : نحن نجد الظالم في القصَص القرآني وفي قصة يوسف تحديداً وهو ينتكس ، فيأخذ الواحد مِنَّا العبرة ، ويبني حياته على ألاّ يظلم أحداً . وحين يرى الإنسان منا المظلومَ وهو ينتصر فهو لا يحزن إنْ تعرَّض لظلم لأنه أخذ العبرة لما ينتظره من نصر بإذن الله . ونحن نقول : " عبر النهر " أي : انتقل من شاطئ إلى شاطئ . وكذلك قولنا " تعبر الرُّؤْيا " أي : تؤوّلها لأن الرُّؤْيا تأتي رمزية وتعبرها أي : تشرحها وتنقلها من خفيّ إلى جليّ وإيضاح المطلوب منها . ونَصِفُ الدَّمْعة بأنها " عَبْرة " والحزن المدفون في النفس البشرية تدل عليه الدَّمْعة . وهنا قال الحق سبحانه : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ … } [ يوسف : 111 ] . والعِبْرة قد تمرُّ ، ولكن لا يلتفت إليها إلا العاقل الذي يُمحِّص الأشياء ، أما الذي يمرُّ عليها مُرور الكرام فهو لا يستفيد منها . و " أولو الألباب " هم أصحاب العقول الراجحة ، و " الألباب " جمع " لُبّ " . واللب : هو جوهر الشيء المطلوب والقِشْر موجود لصيانة اللُّبِّ ، وسُمِّي العقل " لُبّاً " لأنه ينثرُ القشور بعيداً ، ويعطينا جوهر الأشياء وخيرها . ويتابع الحق سبحانه : { مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ … } [ يوسف : 111 ] . أي : أن ما جاء على لسانك يا محمد وأنزله الحق وَحْياً عليك ليس حديث كَذبٍ مُتعمَّد بل هو الحق الذي يطابق الكتب التي سبقتْه . ويُقال : " بين يديك " أي : سبقك فإذا كنت تسير في طابور فَمَنْ أمامك يُقال له " بين يديك " ، ومَنْ وراءك يُقال له " مَنْ خلفك " . والقرآن قد جاء ليصدق الكتب التي سبقتْه وليست هي التي تُصدِّق عليه لأنه الكتاب المهيمن ، والحق سبحانه هو القائل : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ … } [ المائدة : 48 ] . ويضيف الحق سبحانه في نفس الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها : { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ … } [ يوسف : 111 ] . فالقرآن يُصدِّق الكتب السابقة ، ويُفصِّل كل شيء أي : يعطي كل جزئية من الأمر حُكْمها في جزئية مناسبة لها . فهو ليس كلاماً مُجْملاً ، بل يجري تفصيل كل حُكْم بما يناسب أيَّ أمر من أمور البشر . وفي أعرافنا اليومية نقول : " فلان قام بشراء بذلة تفصيل " . أي : أن مقاساتها مناسبة له تماماً ومُحْكمة عليه حين يرتديها . وفي الأمور العقدية نجد - والعياذ بالله - مَنْ يقول : إنه لا يوجد إله على الإطلاق ، ويقابله مَنْ يقول : إن الآلهة مُتعددة لأن كل الكائنات الموجودة في الكون من الصعب أن يخلقها إله واحد فهناك إله للسماء ، وإله للأرض وإله للنبات وإله للحيوان . ونقول لهم : كيف يوجد إله يقدر على شيء ، ويعجز عن شيء آخر ؟ وإنْ قال هؤلاء : " إن تلك الآلهة تتكاتف مع بعضها " . نردُّ عليهم : ليست تلك هي الألوهية أبداً ، ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 29 ] . وحين يكون الشركاء مختلفين فحال هذا العبد المملوك لهم يعيش في ضَنْك وعذاب أما الرجل المملوك لرجل واحد فحاله يختلف لأنه يأتمر بأمر واحد لذلك يحيا مرتاحاً . ونجد الحق سبحانه يقول عن الآلهة المتعددة : { مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ المؤمنون : 91 ] . أما مَنْ يقول بأنه لا يوجد إله في الكون ، فنقول له : وهل يُعقل أن كل هذا الكون الدقيق المُحْكم بلا صانع . ولذلك شاء الحق سبحانه أن يُفَصّلَ هذا الأمر ليؤكد أنه لا يوجد سوى إله واحد في الكون ، ونجد القرآن يُفصِّل لنا الأحكام ويُنزِل لكل مسألة حُكْماً مناسباً لها فلا ينتقل حُكْم من مجال إلى آخر . وكذلك تفصيل الآيات ، فهناك المُحْكم والمُتَشابه والمَثَل هو قول الحق سبحانه . { وَيُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ … } [ آل عمران : 114 ] . ويقول في موقع آخر : { وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ … } [ آل عمران : 133 ] . جاء مرة بقول " إلى " ، ومرة بقول " في " لأن كلاً منها مناسبة ومُفصَّلة حَسْب موقعها . فالمُسَارعة إلى المغفرة تعني أن مَنْ يسارع إليها موجود خارجها ، وهي الغاية التي سيصل إليها ، أما مَنْ يسارع في الخيرات فهو يحيا في الخير الآن ، ونطلب منه أن يزيد في الخير . وأيضاً نجد قوله الحق : { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [ لقمان : 17 ] . ونجد قوله الحق : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [ الشورى : 43 ] . وواحدة منهما وردتْ في المصائب التي لها غَرِيم ، والأخرى قد وردتْ في المصائب التي لا غريم فيها مثل المرض حيث لا غَرِيم ولا خُصومة . أما إذا ضربني أحد أو اعتدى على أحد أبنائي فهو غريمي وتوجد خصومة فوجوده أمامي يَهِيج الشر في نفسي وأحتاج لضبط النفس بعزيمة قوية ، وهذا هو تفصيل الكتاب . والحق سبحانه يقول : { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ … } [ فصلت : 3 ] . أي : أن كل جزئية فيه مناسبة للأمر الذي نزلتْ في مناسبته . ومثال هذا هو قوله سبحانه : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم … } [ الإسراء : 31 ] . وقوله الحق : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ … } [ الأنعام : 151 ] . وكل آية تناسب موقعها ، ومعناها مُتَّسق في داخلها ، وتَمَّ تفصيلها بما يناسب ما جاءت له ، فقوله : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ … } [ الأنعام : 151 ] . يعني أن الفقر موجود ، والإنسان مُنْشغل برزقه عن رزق ابنه . أما قوله : { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ … } [ الإسراء : 31 ] . أي : أن الفقر غير موجود ، وهناك خَوْف أن يأتي إلى الإنسان وهو خوف من أمر لم يَطْرأ بعد . وهكذا نجد في القرآن تفصيل كل شيء تحتاجونه في أمر دنياكم وآخرتكم ، وهو تفصيل لكل شيء ليس عندك وقد قال الهدهد عن ملكة سبأ بلقيس : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ … } [ النمل : 23 ] . وليس معنى هذا أنها أوتيت من كل شيء في هذه الدنيا ، بل هي قد أُوتيَت من كل شيء تملكه ، أو يُمكِن أن تملكه في الدنيا . وقول الحق سبحانه : { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ … } [ يوسف : 111 ] . لا يعني أن نسأل مثلاً : " كم رغيفاً في كيلة القمح ؟ " . وقد حدث أن سأل واحد الإمام محمد عبده هذا السؤال فجاء بخباز ، وسأله هذا السؤال فأجاب الخباز فقال السائل : ولكنك لم تَأْتِ بالإجابة من القرآن ؟ فقال الإمام محمد عبده : لماذا لا تذكر قوله الحق : { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] . وهكذا نعلم أنه سبحانه لم يُفرِّط في الكتاب من شيء . ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله : { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ يوسف : 111 ] . ونعلم أن الهُدى هو الطريق المُؤدي إلى الخير ، وهذا الطريق المؤدي إلى الخير ينقسم إلى قسمين : القسم الأول : الوقاية من الشر لمن لم يقع فيه . والقسم الثاني : علاج لمَنْ وقع في المعصية . وإليك المثال : هَبْ أن أُناساً يعلمون الشر فنردهم عنه ونشفيهم منه لأنه مرض ، وهو رحمة بمعنى ألاَّ يقعوا في المرض بداية . إذن : فهناك ملاحظتان يشيران إلى القسمين : الملاحظة الأولى : أن المنهج القرآني قد نزل وقايةً لمَنْ لم يقع في المعصية . والملاحظة الثانية : أن المنهج يتضمن العلاج لِمَنْ وقع في المعصية . ويُحدِّد الحق سبحانه مَنْ يستفيدون من المنهج القرآني وقاية وعلاجاً ، فيقول : { وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ يوسف : 111 ] . أي : هؤلاء الذين يؤمنون بإله واحد خلقهم وخلق الكون ، ووضع للبشر قوانين صيانة حياتهم ، ومن المنطقيِّ أن يسمع المؤمن كلامه ويُنفذه لأنه وضع المنهج الذي يمكنك أن تعود إليه في كل ما يصون حياتك ، فإنْ كنت مؤمناً بالله فُخُذ الهدى ، وخُذ الرحمة . ونسأل الله أن نُعطَى هذا كله .