Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 110-110)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وكلمة : { حَتَّىٰ } [ يوسف : 110 ] . تدل على أن هناك غاية ، وما دامتْ هناك غاية فلا بُدَّ أن بداية ما قد سبقتْها ، ونقول : " أكلتُ السمكة حتى رأسها " . أي : أن البداية كانت أَكْل السمكة ، والنهاية هي رأسها . والبداية التي تسبق : { ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ … } [ يوسف : 110 ] . هي قوله الحق : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ … } [ يوسف : 109 ] . وما دام الحقُّ سبحانه قد أرسلهم فهم قد ضَمِنوا النصر ، ولكن النصر أبطأ فاستيأس الرسل ، وكان هذا الإبطاء مقصوداً من الحق سبحانه لأنه يريد أن يُحمِّل المؤمنين مهمة هداية حركة الحياة في الأرض إلى أن تقوم الساعة ، فيجب ألا يضطلع بها إلا المُخْتَبر اختباراً دقيقاً . ولا بُدَّ أن يمر الرسول - الأُسْوة لمَنْ معه - ومَنْ يتبعه من بعده بمحن كثيرة ، ومَنْ صبر على المِحَن وخرج منها ناجحاً فهو أَهْلٌ لأن يحمل المهمة . وهو الحق سبحانه القائل : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ … } [ البقرة : 214 ] . إذن : لا بُدَّ من اختبار يُمحِّص . ونحن في حركة حياتنا نُؤهِّل التلميذ دراسياً ليتقدم إلى شهادة إتمام الدراسة الابتدائية ، ثم نُؤهِّله لِنَيْل شهادة إتمام الدراسة الإعدادية ثم نؤهله لنيل شهادة إتمام الدراسة الثانوية ، ثم يلتحق بالجامعة ، ويتم اختباره سنوياً إلى أن يتخرج من الجامعة . وإنْ أراد استكمال دراسته لنيل الماجستير والدكتوراه ، فهو يبذل المزيد من الجَهْد . وكل تلك الرحلة من أجل أن يذهب لتوليّ مسئولية العمل الذي يُسند إليه وهو جدير بها ، فما بَالُنا بعملية بَعْث رسول إلى قوم ما ؟ لا بُدَّ إذن من تمحيصه هو ومَنْ يتبعونه ، وكي لا يبقى على العهد إلا المُوقِن تمام اليقين بأن ما يفوته من خير الدنيا سيجد خيراً أفضل منه عند الله في الآخرة . ولقائل أن يقول : وهل من المعقول أن يستيئس الرسل ؟ نقول : فَلنفهم أولاً معنى " استيأس " وهناك فرق بين " يأس " و " استيأس " ، فـ " يأس " تعني قطع الأمل من شيء . و " استيأس " تعني : أنه يُلِحّ على قَطع الأمل . أي : أن الأمل لم ينقطع بعد . ومَنْ قطع الأمل هو مَنْ ليس له منفذ إلى الرجاء ، ولا ينقطع أمل إنسان إلا إنْ كان مؤمناً بأسبابه المعزولة عن مُسبِّبه الأعلى . لكن إذا كان الله قد أعطى له الأسباب ، ثم انتهت الأسباب ، ولم تَصِلْ به إلى نتيجة ، فالمؤمن بالله هو مَنْ يقول : أنا لا تُهمّني الأسباب لأن معي المُسبِّب . ولذلك يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 ] . ولذلك نجد أن أعلى نسبة انتحار إنما تُوجَد بين الملاحدة الكافرين لأنهم لا يملكون رصيداً إيمانياً ، يجعلهم يؤمنون أن لهم رباً فوق كل الأسباب وقادر على أن يَخْرِق النواميس . أما المؤمن فهو يأوي إلى رُكْن شديد ، هو قدرة الحق سبحانه مُسبِّب كل الأسباب ، والقادر على أن يَخْرِق الأسباب . ولماذا يستيئس الرسل ؟ لأن حرصهم على تعجُّل النصر دفع البعض منهم أن يسأل مثلما سأل المؤمنون : { مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ … } [ البقرة : 214 ] . فضلاً عن ظَنِّهم أنهم كُذّبوا ، والحق سبحانه يقول هنا : { وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ … } [ يوسف : 110 ] . ومادة " الكاف " ، و " الذال " و " الباء " منها " كَذَبَ " ، و " كُذِبَ عليه " و " كُذِّب " . والكذب هو القول المخالف للواقع ، والعاقل هو من يُورِد كلامه على ذِهْنه قبل أن ينطق به . أما فاقد الرشد الذي لا يمتلك القدرة على التدبُّر فينطق الكلام على عَواهِنه ولا يمرر الكلام على ذهنه ولذلك يقال عنه " مخرف " . وقد سبق لنا أن شرحنا الصدق ، وقلنا : إنه تطابق النسبة الكلامية مع الواقع ، والكذب هو ألاَّ تتطابق النسبة الكلامية مع الواقع . ومَنْ يقول كلاماً يعلم أنه لا يطابق الواقع يقال عنه : إنه مُتعمِّد الكذب ، ومَنْ يقول كلاماً بغالبية الظن أنه لا يطابق الواقع ، ونقله عن غيره فهو يكذب دون أن يُحسب كَذبه افتراءً ، والإنسان الذي يتوخَّى الدِّقة ينقل الكلام منسوباً إلى مَنْ قاله له فيقول " أخبرني فلان " فلا يُعَدُّ كاذباً . ولذلك أقول دائماً : يجب أن يُفرِّق العلماء بين كذب المُفْتين ، وكذب الخبر وكذب المُخْبر . فالخبر الكاذب مسئول عنه مَنْ تعمَّد الكذب ، أما الناقل للخبر ما دام قد نسبه إلى مَنْ قاله ، فموقفه مختلف . وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد لها قراءتين قراءة هي : " وظنوا أنهم قد كُذبوا " أي : حدَّثهم غيرهم كَذِباً وقراءة ثانية هي : " وظنوا أنهم قد كُذِّبوا " وهي تعني : أنهم قد ظنُّوا أن ما قيل لهم من كلام عن النصر هو كذب . ولقائل أن يسأل : كيف يظن الرسل ذلك ؟ وأقول : إن الرسول حين يطلب من قومه الإيمان يعلم أن ما يُؤكِّد صدق رسالته هو مجيء النصر وتمرُّ عليه بعض من الخواطر خوفاً أن يقول المقاتلون الذين معه : " لقد كذب علينا " لأن الظن إخبار بالراجح . ولا يخطر على بال الرسل أن الله سبحانه وتعالى - معاذ الله - قد كَذَبهم وعده ، ولكنهم ظَنُّوا أن النصر سيأتيهم بسرعة وأخذوا بطء مجيء النصر دليلاً على أن النصر لن يأتي . أو : أنهم خافوا أن يُكذِّبهم الغير . ولذلك نجد الحق سبحانه يُعْلِم رسله أن النصر سيأتي في الموعد الذي يحدده سبحانه ، ولا يعرفه أحد ، فسبحانه لا يَعْجَلُ بعجلة العبادة حتى تبلغ الأمور ما أراد . ويقول سبحانه : { وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا … } [ يوسف : 110 ] . وهكذا يأتي النصر بعد الزلزلة الشديدة فيكون وَقْعه كوقع الماء على ذي الغُلَّة الصَّادي ، ولنا أن نتخيل شَوْق العطشان لكوب الماء . وأيضاً فإن إبطاء النصر يعطي غروراً للكافرين يجعلهم يتمادون في الغرور ، وحين يأتي النصر تتضاعف فرحة المؤمنين بالرسول ، وأيضاً يتضاعف غَمُّ الكافرين به . ومجيء النصر للمؤمنين يقتضي وقوع هزيمة للكافرين لأن تلك هي مشيئة الله الذي يقع بَأْسه وعذابه على الكافرين به . ويقول سبحانه من بعد ذلك : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ … } .