Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 4-4)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وهكذا تبدأ قصة يوسف ، حين يقول لأبيه يعقوب عليهما السلام " يا أبت " ، وأصل الكلمة " يا أبي " ، ونجد في اللغة العربية كلمات " أبي " و " أبتِ " و " أبتَاهُ " و " أَبَة " وكلها تؤدي معنى الأبوة ، وإن كان لكل منها مَلْحظ لغوي . ويستمر يوسف في قوله : { يٰأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] . وكلنا رأينا الشمس والقمر كُلٌّ في وقت ظهوره لكن حلُم يوسف يُبيِّن أنه رآهما معاً ، وكلنا رأينا الكواكب متناثرة في السماء آلافاً لا حَصْرَ لها ، فكيف يرى يوسف أحد عشر كوكباً فقط ؟ لا بُدَّ أنهم اتصفوا بصفات خاصة ميَّزتهم عن غيرهم من الكواكب الأخرى وأنه قام بعدِّهِم . ورؤيا يوسف عليه السلام تبيِّن أنه رآهم شمساً وقمراً وأحد عشر كوكباً ثم رآهم بعد ذلك ساجدين . وهذا يعني أنه رآهم أولاً بصفاتهم التي نرى بها الشمس والقمر والنجوم بدون سجود ثم رآهم وهم ساجدون له بملامح الخضوع لأمر من الله ، ولذلك تكررت كلمة " رأيت " وهو ليس تكراراً ، بل لإيضاح الأمر . ونجد أن كلمة : { سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] . وهي جمع مذكر سالم ولا يُجمع جَمْع المذكر السالم إلا إذا كان المفرد عاقلاً ، والعقل يتميز بقدرة الاختيار بين البدائل والعاقل المؤمن هو مَنْ يجعل اختياراته في الدنيا في إطار منهج الدين ، وأسْمَى ما في الخضوع للدين هو السجود لله . ومَنْ سجدوا ليوسف إنما سجدوا بأمر من الله ، فَهُم إذن يعقلون أمر الحق سبحانه وتعالى . مثلهم في ذلك مَثَلْ ما جاء في قول الحق سبحانه : { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الانشقاق : 1 - 2 ] . هذه السماء تعقل أمر ربها الذي بناها . وقال عنها أنها بلا فُرُوجٍ : { أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } [ ق : 6 ] . وهي أيضاً تسمع أمر ربها ، مصداقاً لقوله سبحانه : { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الانشقاق : 2 ] . أي : أنها امتلكت حاسة السمع لأن " أذنت " من الأذن وكأنها بمجرد سماعها لأمر الله تنفعل وتنشق . وهكذا نجد أن كل عَالَم من عوالم الكون أُمَم مثل أمة البشر ، ويتفاهم الإنسان مع غيره من البشر ممَّن يشتركون معه في اللغة ، وقد يتفاهم مع البشر أمثاله ممن لا يعرف لغتهم بالإشارة ، أو من خلال مُترجم ، أو من خلال تعلُّم اللغة نفسها . ولكن الإنسان لا يفهم لغة الجماد ، أو لغة النبات ، أو لغة الحيوان إلا إذا أنعم الله على عبد بأن يفهم عن الجماد ، أو أن يفهم الجماد عنه . والمثل : هو تسبيح الجبال مع داود ، ويُشكِّل تسبيحه مع تسبيحها " جُوقة " من الانسجام مُكَوَّن من إنسان مُسبِّح هو أعلى الكائنات ، والمُردِّد للتسبيح هي الجبال ، وهي من الجماد أدنى الكائنات . ونحن نعلم أن كل الكائنات تُسبِّح ، لكننا لا نفقه تسبيحها ، ولكن الحق سبحانه يختار من عباده مَنْ يُعلِّمه مَنْطِق الكائنات الأخرى ، مثلما قال سبحانه عن سليمان : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ … } [ النمل : 16 ] . وهكذا عَلِمْنا أن للطير منطقاً . وعلَّم الحقُّ سبحانه سليمان لغة النمل لأننا نقرأ قول الحق : { حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ } [ النمل : 18 - 19 ] . إذن : فلكُلِّ أُمَّة من الكائنات لغة ، وهي تفهم عن خالقها ، أو مَنْ أراد له الله سبحانه وتعالى أن يفهم عنها ، وبهذا نعلم أن الشمس والقمر والنجوم حين سجدتْ بأمر ربها ليوسف في رؤياه إنما فهمتْ عن أمر ربها . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { قَالَ يٰبُنَيَّ … } .