Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 12, Ayat: 5-5)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وحين يُورِد القرآن خطاب أب لابن لا نجد قوله { يٰبُنَيَّ } وهو خطابُ تحنينٍ ، ويدل على القرب من القلب ، و " بُني " تصغير " ابن " . أما حين يأتي القرآن بحديث أب عن ابنه فهو يقول " ابني " مثل قول الحق سبحانه عن نوح يتحدث عن ابنه الذي اختار الكفر على الإيمان : { إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي … } [ هود : 45 ] . وكلمة " يا بني " بما فيها من حنان وعطف ستفيدنا كثيراً فيما سوف يأتي من مواقف يوسف ومواقف أبيه منه . وقول يعقوب ليوسف " يا بني " يُفْهم منه أن يوسف عليه السلام ما زال صغيراً ، فيعقوب هو الأصل ، ويوسف هو الفرع ، والأصل دائماً يمتلئ بالحنان على الفرع ، وفي نفس الوقت نجد أيَّ أب يقول : مَنْ يأكل لقمتي عليه أن يسمع كلمتي . وقول الأب : يا بني ، يفهم منه أن الابن ما زال صغيراً ، ليست له ذاتية منفصلة عن الأب ليقرر بها ما هو المناسب ، وما هو غير المناسب . وحين يفزع يوسف مما يُزعِجه أو يُسيء إليه أو أي أمر مُعْضَل فهو يلجأ إلى مَنْ يحبه وهو الأب لأن الأب هو - الأقدر في نظر الابن - على مواجهة الأمور الصعبة . وحين روى يوسف عليه السلام الرؤيا لأبيه قال يعقوب عليه السلام : { قَالَ يٰبُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ … } [ يوسف : 5 ] . ونفهم من كلمة " رؤيا " أنها رؤيا منامية لأن الشمس والقمر والنجوم لا يسجدون لأحد ، وهذا ما يوضح لنا دقة اللغة العربية ، فكلمة واحدة هي " رأى " قد يختلف المعنى لها باختلاف ما رُؤى فرؤيتك وأنت يقظانُ يُقال عنها " رؤية " ورؤيتك وأنت نائم يُقال عنها " رؤيا " . والرؤية مصدر مُتفق عليه من الجميع : فأنت ترى ما يراه غيرك وأما " الرؤيا " فهي تأتي للنائم . وهكذا نجد الالتقاء في " رأى " والاختلاف في الحالة هل هي حالة النوم أو حالة اليقظة . وفي الإعراب كلاهما مؤنث لأن علامة التأنيث إما : " تاء " ، أو " ألف ممدودة " ، أو " ألف مقصورة " . وأخذت الرؤية الحقيقية التي تحدث في اليقظة " التاء " وهي عمدة التأنيث أما الرؤيا المنامية فقد أخذت ألف التأنيث . ولا يقدح في كلمة " رؤيا " أنها منامية إلا آية واحدة في القرآن حيث تحدث الحق سبحانه عن لحظة أن عُرِجَ به صلى الله عليه وسلم فقال : { وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّؤيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ … } [ الإسراء : 60 ] . ولكن مَنْ يقولون : " إنها رؤيا منامية " لم يفقهوا المعنى وراء هذا القول فالمعنى هو : إن ما حدث شيء عجيب لا يحدث إلا في الأحلام ، ولكنه حدث في الواقع بدليل أنه قال عنها : أنها " فتنة للناس " . فالرسول صلى الله عليه وسلم لو كان قد قال إنها رؤيا منامية لما كذَّبه أحد فيما قال : لكنه أعلن أنها رؤيا حقيقية لذلك عَبّر عنها القرآن بأنها فتنة للناس . وهنا يقول يعقوب عليه السلام : { قَالَ يٰبُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ … } [ يوسف : 5 ] . لأن يعقوب عليه السلام كأب مأمونٌ على ابنه يوسف أما إخوة يوسف فهم غير مأمونين عليه ، وحين يقصُّ يوسف رؤياه على أبيه ، فهو سينظر إلى الصالح ليوسف ويدلُّه عليه . أما إن قصَّ الرؤيا على إخوته فقد تجعلهم الأغيار البشرية يحسدون أخاهم ، وقد كان . وإن تساءل أحد : ولماذا يحسدونه على رؤيا منامية ، رأى فيها الشمس والقمر وأحدَ عشرَ كوكباً يسجدون له ؟ نقول : لا بُدَّ أن يعقوب عليه السلام قد عَلِم تأويل الرُّؤيا وأنها نبوءة لأحداث سوف تقع ولا بُدَّ أن يعقوب عليه السلام قد علم أيضاً قدرة إخوة يوسف على تأويل تلك الرؤيا ، ولو قالها يوسف لهم لَفهِموا المقصود منها ، ولا بد حينئذ أن يكيدوا له كيداً يُصيبه بمكروه . فهم قد أصابهم الضيق من يوسف وهو ما زال طفلاً ، فما باله بضيقهم إنْ عَلِموا مثل هذه الرؤيا التي سيجد له فيها الأب والأم مع الإخوة . ولا يعني ذلك أن نعتبر إخوة يوسف من الأشرار فهم الأسباط وما يصيبهم من ضيق بسبب عُلُو عاطفة الأب تجاه يوسف هو من الأغيار التي تصيب البشر ، فهم ليسوا أشراراً بالسَّليقة لأن الشرير بالسَّليقة تتصاعد لديه حوادثُ السوء ، أما الخيِّر فتتنزَّل عنده حوادث السوء . والمثال على ذلك : أنك قد تجد الشرير يرغب في أن يصفع إنساناً آخر صفعة على الخَدِّ ولكنه بعد قليل يفكر في تصعيد العدوان على ذلك الإنسان ، فيفكر أن يصفعه صفعتين بدلاً من صفعة واحدة ثم يرى أن الصفعتين لا تكفيان فيرغب أن يُزيد العدوان بأن يصوِّب عليه مسدساً وهكذا يُصعِّد الشرير تفكيره الإجرامي . أما الخَيِّر فهو قد يفكر في ضرب إنسان أساء إليه " علقة " ولكنه يُقلِّل من التفكير في رَدِّ الاعتداء بأن يكتفي بالتفكير في ضربه صفعتين بدلاً من " العلقة " ، ثم يهدأ قليلاً ويعفو عَمَّنْ أساء إليه . وإخوة يوسف - وهم الأسباط - بدءوا في التفكير بانتقام كبير من يوسف ، فقالوا لبعضهم : { ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ … } [ يوسف : 9 ] . ثم هبطوا عن هذه الدرجة المُؤْلمة من تعبيرهم عن الغيرة من زيادةِ محبة أبيهم ليوسف ، فقالوا : { أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ … } [ يوسف : 9 ] . وحينما أرادوا أن يطرحوه أرضاً ترددوا واستبدلوا ذلك بإلقائه في الجُبِّ لعل أن يلتقطه بعض السَّيارة . فقالوا : { وَأَلْقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ … } [ يوسف : 10 ] . وهذا يدل على أنهم تنزَّلوا عن الانتقام الشديد بسبب الغيرة بل إنهم فكروا في نجاته . وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه : { لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً … } [ يوسف : 5 ] . والكيد : احتيال مستور لمَنْ لا تقوى على مُجَابهته ، ولا يكيد إلا الضعيف لأن القوي يقدر على المواجهة . ولذلك يُقَال : إن كيد النساء عظيم لأن ضعفهن أعظم . ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ يوسف : 5 ] . وهذه العداوة معروفة لنا تماماً لأنه خرج من الجنة ملعوناً مطروداً عكس آدم الذي قَبِل الله توبته وقد أقسم الشيطان بعزة الله لَيُغْوِينَّ الكُلَّ ، واستثنى عبادَ اللهِ المخلصين . ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " لقد أعانني الله على شيطاني فأسلم " . ويصف الحق سبحانه عداوة الشيطان للإنسان أنها عداوةٌ مُبينة . أي : محيطة . وحين نقرأ القرآن نجد إحاطة الشيطان للإنسان فيها يقظة : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ … } [ الأعراف : 17 ] . ولم يَأْتِ ذِكْر للمجيء من الفوقية أو من التحتية لأن مَنْ يحيا في عبودية تحتية وعبادية فوقية لا يأتيه الشيطان أبداً . ونلحظ أن الحق سبحانه جاء بقول يعقوب عليه السلام مخاطباً يوسف عليه السلام في هذه الآ ية : { فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً … } [ يوسف : 5 ] . ولم يقل : فيكيدوك ، وهذا من نَضْح نبوة يعقوب عليه السلام على لسانه لأن هناك فارقاً بين العبارتين ، فقول : " يكيدوك " يعني أن الشرَّ المستور الذي يدبرونه ضدك سوف يصيبك بأذى . أما { فَيَكِيدُواْ لَكَ … } [ يوسف : 5 ] . فتعني أن كيدهم الذي أرادوا به إلحاق الشر بك سيكون لحسابك ، ويأتي بالخير لك . ولذلك نجد قوله الحق في موقع آخر بنفس السورة : { كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ … } [ يوسف : 76 ] . أي : كدنا لصالحه . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ … } .