Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 53-53)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذا القول من تمام كلام امرأة العزيز وكأنها توضح سبب حضورها لهذا المجلس فهي لم تحضر لتبرىء نفسها : { إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ … } [ يوسف : 53 ] . ومجيء قول الحق سبحانه المؤكِّد أن النفس على إطلاقها أمَّارة بالسوء يجعلنا نقول : إن يوسف أيضاً نفس بشرية . وقد قال بعض العلماء : إن هذا القول من كلام يوسف ، كردٍّ عليها حين قالت : { أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ * ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ } [ يوسف : 51 - 52 ] . وكان من المناسب أن يرد يوسف عليه السلام بالقول : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ … } [ يوسف : 53 ] . ويمكن أن يُنسب هذا القول إلى يوسف كَلَوْنٍ من الحرص على ألاَّ يلمسه غرور الإيمان ، فهو كرسول من الله يعلم أن الله سبحانه هو الذي صرف كيدهُنَّ عنه . وهذا لَوْن من رحمة الله به فهو كبشر مُجرّد عن العصمة والمنهج من الممكن أن تحدث له الغواية لكن الحق سبحانه عصمه من الزَّلَل . ومن لُطْف الله أن قال عن النفس : إنها أمَّارة بالسوء وفي هذا توضيح كافٍ لطبيعة عمل النفس فهي ليستْ آمرةً بالسوء ، بمعنى أنها تأمر الإنسان لتقع منه المعصية مرة واحدة وينتهي الأمر . لا ، بل انتبه أيها الإنسان إلى حقيقة عمل النفس ، فهي دائماً أمَّارة بالسوء ، وأنت تعلم أن التكليفات الإلهية كلها إمَّا أوامر أو نَوَاهٍ ، وقد تستقبِل الأوامر كتكليف يشقُّ على نفسك ، وأنت تعلم أن النواهي تمنعك من أفعال قد تكون مرغوبة لك ، لأنها في ظاهرها ممتعة ، وتلبي نداء غرائز الإنسان . ولذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : " حُفَّتْ الجنة بالمكاره ، وحُفَّتْ النار بالشهوات " . أي : أن المعاصي قد تُغريك ، ولكن العاقل هو من يملك زمام نفسه ، ويُقدِّر العواقب البعيدة ، ولا ينظر إلى اللذة العارضة الوقتية إلا إذا نظر معها إلى الغاية التي تُوصِّله إليها تلك اللذة لأن شيئاً قد تستلِذُّ به لحظة قد تَشْقى به زمناً طويلاً . ولذلك قلنا : إن الذي يُسرف على نفسه غافل عن ثواب الطاعة وعن عذاب العقوبة ، ولو استحضر الثواب على الطاعة ، والعذاب على المعصية لامتنع عن الإسراف على نفسه . ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " . إذن : فلحظة ارتكاب المعصية نجد الإنسان وهو يستر إيمانه ولا يضع في باله أنه قد يموت قبل أن يتوبَ عن معصيته ، أو قبل أن يُكفِّر عنها . ويخطىء الإنسان في حساب عمره لأن أحداً لا يعلم ميعاد أجله أو الوقت الذي يفصل بينه وبين حساب الموْلَى - عَزَّ وجَلَّ - له على المعاصي . وكل مِنَّا مُطَالب بأن يضع في حُسْبانه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " الموت القيامة ، فمَنْ مات فقد قامت قيامته " . ولنا أسوة طيبة في عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وهو الخليفة الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي كان إذا وقف على قبر بكى حتى تبتلَّ لحيته ، فسُئِل عن ذلك وقيل له : تذكر الجنة والنار فلا تبكي ، وتبكي إذا وقفتَ على قبر ؟ فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن القبر أول منازل الآخرة ، فإنْ نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه ، وإن لم يَنْجُ منه ، فما بعده أشد " . لذلك فلا يستبعد أحد ميعاد لقائه بالموت . وتستمر الآية : { إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ يوسف : 53 ] . ونعلم أن هناك ما يشفي من الداء ، وهناك ما يُحصِّن الإنسان ، ويعطيه مناعة أن يصيبه الداء ، والحق سبحانه غفور ، بمعنى أنه يغفر الذنوب ، ويمحوها ، والحق سبحانه رحيم ، بمعنى أنه يمنح الإنسان مناعة ، فلا يصيبه الداء ، فلا يقع في زلة أخرى . والحق سبحانه هو القائل : { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ … } [ الإسراء : 82 ] . فساعةَ تسمع القرآن فهو يشفيك من الداء الذي تعاني منه نفسياً ويُقوِّي قدرتك على مقاومة الداء ويُفجِّر طاقات الشفاء الكامنة في أعماقك . وهو رحمة لك حين تتخذه منهجاً ، وتُطبِّقه في حياتك فيمنحك مناعة تحميك من المرض ، فهو طِبّ علاجيّ وطبّ وقائيّ في آنٍ واحد . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ … } .