Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 55-55)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وهذا القول تأكيد لثقة يوسف أن القادم في هذا البلد يحتاج لحكمة إدارة ، لا تبعثر ما سوف يأتي في سنين الخصب لتضمن الاطمئنان في سنين الشدة ، وتلك مهمة تتطلب الحفظ والعلم . وقد تقدم ما يثبت أن هاتين الصفتين يتحلَّى بهما يوسف عليه السلام . وقد يقول قائل : أليس في قول يوسف شبهة طلب الولاية ؟ والقاعدة تقول : إن طالب الولاية لا يولَّى . فيوسف عليه السلام لم يطلب ولاية ، وإنما طلب الإصلاح ليتخذ من إصلاحه سبيلاً لدعوته وتحقيقاً لرسالته ، حيث أنه كان آمراً فيستجاب ، ولم يكن مأموراً للإيجاب حيث أنه كان واثقاً بالإيمان ومؤمناً بوثوق . وقد تأتي ظروف لا تحتمل التجربة مع الناس ، فمن يثق بنفسه أنه قادر على القيام بالمهمة فله أن يعرض نفسه . ومثال ذلك : لنفترض أن قوماً قد ركبوا سفينة ثم هاجتْ الرياح وهبَّتْ العاصفة وتعقَّدت الأمور وارتبك القبطان ، وجاءه مَنْ يخبره أنه قادر على أن يحل له هذا الأمر ، ويُحسن إدارة قيادة المركب ، وسبق للقبطان أن علم عنه ذلك . هنا يجب على القبطان أن يسمح لهذا الخبير بقيادة السفينة وبعد أن ينتهي الموقف الصعب على القبطان أن يُوجِّه الشكر لهذا الخبير ويعود لقيادة سفينته . إذن : فمن حقِّ الإنسان أن يطلب الولاية إذا تعيَّن عليه ذلك ، بأن يرى أمراً يتعرض له غير ذي خبرة يُفسد هذا الأمر ، وهو يعلم وَجْه الصلاح فيه . وهنا يكون التدخل فرض عين من أجل إنقاذ المجتمع . وفي مثل هذه الحالة نجد مَنْ طلب الولاية وهو يملك شجاعتين : الشجاعة الأولى : أنه طلب الولاية لنفسه لثقته في إنجاح المهمة . والشجاعة الثانية : أنه حجب من ليس له خبرة أن يتولى منصباً لا يعلم إدارته ، وبهذا يصير الباطل متصرفاً . وبذلك يُظهر وَجْه الحق ويُزيل سيطرة الباطل . ولذلك نجد يوسف عليه السلام يقول للملك : { ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [ يوسف : 55 ] . والخزائن يوجد فيها ما يُمكّن المسيطر عليها من قيادة الاقتصاد . وقالوا : إن يوسف طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض ، لوضع سياسة اقتصادية يواجهون بها سبع سنين من الجَدْب ، وتلك مسألة تتطلب حكمة وحِفْظاً وعِلْماً . وكان يوسف عليه السلام يأخذ من كل راغبٍ في المَيْرة الأثمان من ذهب وفضة ، ومَنْ لا يملك ذهباً وفضة كان يُحضر الجواهر من الأحجار الكريمة أو يأتي بالدواب ليأخذ مقابلها طعاماً . ومَنْ لا يملك كان يُحضر بعضاً من أبنائه للاسترقاق ، أي : يقول رَبُّ الأسرة الفقير : خُذْ هذا الولد ليكون عبداً لقاء أن آخذ طعاماً لبقية أفراد الأسرة . وكان يوسف عليه السلام يُحسِن إدارة الأمر في سنوات الجَدْب ليشُد كل إنسان الحزام على البطن ، فلا يأكل الواحد في سبعة أمعاء بل يأكل في مِعىً واحد ، كما يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف : " المؤمن يأكلَ في مِعَىً واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء " . وكان التموين في سنوات الجَدْب يقتضي دِقَّة التخطيط ، ولا يحتمل أيَّ إسراف . وما دام لكل شيء ثمن يجب أن يُدفع ، فكل إنسان سيأخذ على قَدْر ما معه ، وبعد أن انتهت سنوات الجَدْب ، وجاءت سنوات الرخاء أعاد يوسف لكل إنسان ما أخذه منه . وحين سُئِل : ولماذا أخذتَ منهم ما دُمْتَ قد قررت أن تردَّ لهم ما أخذته ؟ أجاب : كي يأخذ كل إنسان في أقلِّ الحدود التي تكفيه في سنوات الجدب . ومثل هذا يحدث عندنا حين نجد البعض ، وهو يشتري الخبز المُدعّم لِيُطعِم به الماشية ، وحين يرتفع ثمن الخبز نجد كل إنسان يشتري في حدود ما معه من نقود ، ويحرص على ألاَّ يُلقِي مما اشترى شيئاً . وكانت قدرة الدولة أيام الجفاف محدودة لذلك وجب على كل فرد أن يعمل لنفسه . ونحن نرى ذلك الأمر ، وهو يتكرر في حياتنا فحين لا يجد أحد ثمن اللحم فقد لا تهفو نفسه إلى اللحم ، وقد يعلن في كبرياء : " إن معدتي لم تَعُدْ تتحمل اللحم " . وقد يعلن الفقير حُبَّه للسمك الصغير لأن لحمه طيّب ، عكس السمك الكبير الذي يكون لحمه " مِتفِّلاً " ، أو يعلن إعجابه بالفجل الطازج ، لأنه لذيذ الطعم . وقديماً في بدايات العمر كنا حين ندخل إلى المنزل ، ونحن نعيش بعيداً عن بيوت الأهل في سنوات الدراسة ، ولا نجد إلا قرصاً واحداً من " الطعمية " ، كنا نقسم هذا القرص ليكفي آخر لقمة في الرغيف ، أما إذا دخلنا ووجدنا خمسة أقراص من الطعمية ، فكان الواحد منا يأكل نصف قرص من الطعمية مع لقمة واحدة . وهكذا يتحمل كل واحد على قَدْر حركته وقدرته . والشاعر يقول : @ والنفسُ راغبةٌ إذَا رغَّبتَها وإذَا تُرَدُّ إلى قَليلٍ تَقْنَعُ @@ ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا … } .