Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 87-87)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ونلحظ أن الذين غابوا هم ثلاثة : يوسف ، وبنيامين ، والأخ الأكبر الذي أصرَّ على ألاَّ يبرح مصر إلا بعد أن يأذنَ أبوه ، أو يأتي فرج من الله . وهنا في هذه الآية جاء ذِكْر يوسف وأخيه ، ولم يَأْتِ ذِكْر الأخ الكبير أو رئيس الرحلة . ونقول : إن يوسف وأخاه هما المعسكر الضعيف الذي عانى من مناهضة بقية الإخوة ، وهما قد فارقا الأب صغاراً ، أما الأخ الأكبر فيستطيع أن يحتال ، وأن يعود في الوقت الذي يريد . وقول يعقوب : { ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ … } [ يوسف : 87 ] . نجد فيه كلمة تحسسوا ، وهي من الحسِّ ، والحِسُّ يُجمع على " حواس " ، والحواس هي منافذ إدراك المعلومات للنفس البشرية ، فالمعلومات تنشأ عندنا من الأمور المُحسَّة ، وتدركها حواسنا لتصير قضايا عقلية . وهكذا نعلم أن الحواس هي قنواتُ المعرفة ، وهي غير مقصورة على الحواس الخمس الظاهرة بل اكتشف العلماء أن هناك حواسَّ أخرى غير ظاهرة ، وسبق أن تعرضنا لهذا الأمر في مرَّاتٍ كثيرة سابقة . وقوله : { فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ … } [ يوسف : 87 ] . يعني أعملوا حواسكم ، بكل ما فيها من طاقة ، كي تصلوا إلى الحقيقة . ونعلم أن كلمة " الجاسوس " قد أُطلِقَتْ على مَنْ يتنصَّتْ ويرى ويشُمُّ رائحة الأخبار والتحرُّكات عند معسكر الأعداء ويقال له " عين " أيضاً . وفي عُرْفنا العام نقول لمن يحترف التقاط الأخبار " شَمْ شِمْ لنا على حكاية الأمر الفلاني " . وتابع يعقوب القول : { وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 ] . أي : إياكم أن تقولوا أننا ذهبنا وتعبنا وتحايلنا ولم نجد حلاً ، لأن الله موجود ، ولا يزال لله رحمة . والأثر يقول : " لا كَرْبَ وأنت رَبُّ " . وما يَعِزُّ عليك بقانونك الجأ فيه إلى الله . وقد علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه كلما حَزَبه أمر قام وصلى " . وبهذا لجأ إلى ربِّ الأسباب ، وسبحانه فوق كل الأسباب ، وجَرِّبوا ذلك في أيِّ أمر يُعضِلكم ، ولن ينتهي الواحد منكم إلى نهاية الصلاة إلا ويجد حَلاّ لِمَا أعضلَه . وكلمة " رَوْح " نجدها تُنطَق على طريقتين " رَوْح " و " رُوح " ، و " الرَّوْح " هي الرائحة التي تهبُّ على الإنسان فيستروح بها ، مثلما يجلس إنسان في يوم قَيْظ ثم تهبُّ نسمة رقيقة ينتعش بها . والحق سبحانه يقول : { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ } [ الواقعة : 89 ] . ونأخذ لهذه الروح مثلاً من المُحسَّات حين يشتد القيظ ، ونجلس في بستان ، وتهبُّ نسمة هواء فيتعطر الجو بما في البستان من زهور . والرُّوح هي التي ينفخها الحقُّ سبحانه في الجماد فيتحرك . ويأتي هنا يعقوب عليه السلام بالقضية والمبدأ الذي يسير عليه كل مؤمن ، فيقول : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 ] . لأن الذي ليس له رَبٌّ هو مَنْ ييأس ، ولذلك نجد نسبة المنتحرين بين الملاحدة كبيرة ، لكن المؤمن لا يفعل ذلك لأنه يعلم أن له رباً يساعد عباده . وما دام المؤمن قد أخذ بالأسباب فسبحانه يَهبُه ممَّا فوق الأسباب . وسبحانه يقول : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } [ الطلاق : 2 - 3 ] . وهذه مسألة تحدث لمن يتقي الله . أتحدى أن يوجد مؤمن ليس في حياته مثل هذه الأمور ، ما دام يأخذ بالأسباب ويتقي الله ، وسوف يجد في لحظة من لحظات الكرب أن الفرج قد جاء من حيث لا يحتسب لأن الله هو الرصيد النهائي للمؤمن . وهَبْ أنك سائر في الطريق ، وفي جيبك جنيه واحد ، وليس عندك غيره وضاع منك هل تحزن ؟ نعم سوف تحزن ، ولكن إن كان في بيتك عشرة جنيهات فحزنك يكون خفيفاً لضياع الجنيه ، ولو كان رصيدك في البنك ألف من الجنيهات ، فلن تحزن على الجنيه الذي ضاع . ومَنْ له رَبٌّ ، يبذل الجَهْد في الأخذ بالأسباب سيجد الحل والفرج من أيِّ كرب مِمَّا هو فوق الأسباب . ولماذا ييأس الإنسان ؟ إن المُلحِد هو الذي ييأس لأنه لا يؤمن بإله ، ولو كان يؤمن بإله ، وهذا الإله لا يعلم بما فيه هذا الكافر من كَرْب ، أو هو إله يعلم ولا يساعد مَنْ يعبده إما عجزاً أو بُخْلاً ، فهو في كل هذه الحالات ليس إلهاً ، ولا يستحق أن يُؤمَن به . أما المؤمن الحق فهو يعلم أنه يعبد إلهاً قادراً ، يعطي بالأسباب ، وبما فوق الأسباب وهو حين يمنع فهذا المَنْع هو عَيْنُ العطاء لأنه قد يأخذ ما يضره ولا ينفعه . وينقلنا الحق سبحانه إلى نَقْلة أخرى وهي لحظة أنْ دخلوا على يوسف عليه السلام في مقرِّه بمصر ونقرأ قوله الحق : { فَلَمَّا دَخَلُواْ … } .