Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 15, Ayat: 99-99)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ونعرف أن العبادة هي إطاعة العابد لأوامر المعبود إيجاباً أو سَلْباً ، وتطبيق " افعل " و " لا تفعل " ، وكثيرٌ من الناس يظنون أن العبادة هي الأمور الظاهرية في الأركان الخمسة من شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحِجّ البيت لِمَن استطاع إليه سبيلاً . ونقول : لا ، فهذه هي الأُسس التي تقوم عليها العبادة . أي : أنها البِنْية التي تقوم عليها بقية العبادة ، وهكذا تصبح العبادة هي ، كُل ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب ، أي : أن حركة الحياة كلها - حتى كَنْس الشوارع ، وإماطة الأذى عن الطريق - هي عبادة ، كل ما يُقصد به نَفْع الناس عبادة ، كي لا يصبح المسلمون عالة على غيرهم . وفي إقامة الأركان إظهارٌ لقوة المسلمين ، حين يُظهِرون كامل الولاء لله بإقامة الصلاة خمس مرات في اليوم الواحد ، فيترك المسلم عمله فَوْر أنْ يسمع النداء بـ " الله أكبر " فيخرج المسلم من صراعات الحياة ، ويعلن الولاء للخالق المنعم . وحين يصوم المسلم شهراً في السنة فهو يُعلِن الولاء للخالق الأكرم ، ويصوم عن أشياء كثيرة كانت مُبَاحة وأوَّل ما يأتي موعد الإمساك من قَبْل صلاة الفجر بقليل فهو يمتنع فوراً . وهذا الامتثال لأوامر الحق سبحانه يُذكّرك بنعمه عليك فأنت في يومك العادي لا تقرب المُحرَّمات التي أخذتْ وقتاً أثناء بدايات الدين إلى أن امتنع عنها المسلمون ، فلا أحدَ من المسلمين يُفكِّر في شُرْب الخمر ولا أحدَ منهم يُفكِّر في لعب المَيْسِر ، وانطبعتْ تلك الأمور وصارتْ عادة سلوكية في إلْف ورتَابة عند غالبية المسلمين مِمَّنْ يُنفِّذون شريعة الله ، ويُطبّقون " افعل " و " لا تفعل " . وعندما يأتي الصوم فأنت تمتنع عن أشياء هي حلال لك طوال العالم ، وتقضي أي نهار في رمضان ونفسُك تستشرف سماع أذان المغرب لِتُفطر . وهكذا تمتثل للأمر بالامتناع والإمساك والأمر بالإفطار ، وذلك لِيعُوّدك على الكثير من الطاعات التي تصير عند المؤمنين عادةً وسبحانه يريد أنْ يُديم عليك لذَّة التكليف العبادي . وبعْضٌ من الناس يذهبون مذاهب الخطأ عندما يفسرون بأهوائهم قوله الحق : { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] . ويقول الواحد من هؤلاء مخادعاً الغير " لقد وصلت إلى مرتبة اليقين " ، ويمتنع عن أداء الفروض من صلاة وصوم وزكاة وحِجِّ إلى بيت الله الحرام رغم استطاعته ، ويدَّعِي أن التكليف قد سقط عنه لأن اليقين قد وصله . ونقول لمن يدَّعي ذلك : أَتُخادع الله ورسوله ؟ وكُلُّنا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظَلَّ يُؤدِّي الفرائض حتى آخر يوم في حياته . وكُلُّنا يعلم أن اليقين المُتفق عليه والمُتيقن من كل البشر ، ولا خلافَ عليه أبداً هو الموت . أما اليقين بالغيبيات فهو من خُصوصيات المؤمن فما أنْ بلغه أمرها من القرآن فقد صَدَّقها ، ولم يسأل كيف يتأتَّى أمرُها . والمثَلُ الواضح هو أبو بكر الصديق حينما كانوا يُحدِّثونه بالأمر الغريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان يقول " ما دام قد قال فقد صدق " . أما الكافر - والعياذ بالله - فهو يشكُّ في كل شيء غيبيّ أو حتى ماديّ ما لم يكن محسوساً لديه ، ولكن ما أنْ يأتيه الموت حتى يعلمَ أنه اليقين الوحيد . ولذلك نجد عمر بن عبد العزيز يقول : " ما رأيت يقيناً أشبه بالشكِّ من يقين الناس بالموت " . وكلنا نتيقن أننا سوف نموت لكِنَّا نُزحزِح مسألة اليقين هذه بعيداً عَنَّا رَغْم أنها واقعةٌ لا محالةَ . فإذا ما جاء الموت ، نقول : ها هي اللحظة التي لا ينفع فيها شيء إلا عمل الإنسان إنْ كان مؤمناً مُؤدِّياً لحقوق الله . ولذلك أقول دائماً : إن اليقين هو تصديق الأمر تصديقاً مؤكداً ، بحيث لا يطفو إلى الذهن لِيُناقش من جديد ، بعد أن تكون قد علمته من مصادر تثق بصدق ما تَبلغك به . أما عَيْن اليقين فهي التي ترى الحدث فتتيقّنه ، أو هو أمر حقيقيّ يدخل إلى قلبك فَتُصدقه ، وهكذا يكون لليقين مراحل : أمر تُصدِّقه تَصديقاً جازماً فلا يطفو إلى الذهن لِيُناقَش من جديد ، وله مصادر عِلْم مِمَّنْ تثق بصدقه ، أو : إجماع من أناس لا يجتمعون على الكذب أبداً وهذا هو " علم اليقين " فإنْ رأيتَ الأمر بعينيك فهذا هو حق اليقين . والمؤمن يُرتِّب تصديقه وتيقّنه على ما بلغه من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وها هو الإمام عليّ - كرَّم الله وجهه وأرضاه - يقول : " ولو أن الحجاب قد انكشف عن الأمور التي حدثنا بها رسول الله غيباً ما ازددتُ يقيناً " . " وها هو سيدنا حارثة - رضي الله عنه - يقول : " كأنِّي أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يُنعَّمون ، وإلى أهل النار في النار يُعذَّبون " ، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عرفت فالزم " . وذلك هو اليقين كما آمنَ به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .