Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 106-106)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحق سبحانه وتعالى سبق وأنْ تحدث عن حكم المؤمنين وحكم الكافرين ، ثم تحدّث عن الذين يخلفون العهد ولا يُوفون به ، ثم تحدث عن الذين افترَوْا على رسول الله والذين كذَّبوا بآيات الله ، وهذه كلها قضايا إيمانية كان لا بُدَّ أنْ تُثار . وفي هذه الآية الكريمة يوضح لنا الحق سبحانه وتعالى أن الإيمان ليس مجرد أن تقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله . فالقول وحده لا يكفي ولا بُدَّ وأنْ تشهدَ بذلك ، ومعنى تشهد أنْ يُواطِىء القلب واللسان كل منهما الآخر في هذه المقولة . والمتأمل لهذه القضية يجد أن القسمة المنطقية تقتضي أن يكون لدينا أربع حالات : الأولى : أنْ يُواطىء القلب اللسان إيجاباً بالإيمان ولذلك نقول : إن المؤمن منطقيّ في إيمانه لأنه يقول ما يُضمره قلبه . الثانية : أنْ يُواطِىءَ القلب اللسان سلباً أي : بالكفر ، وكذلك الكافر منطقي في كفره بالمعنى السابق . الثالثة : أنْ يؤمن بلسانه ويُضمِرَ الكفر في قلبه ، وهذه حالة المنافق ، وهو غير منطقي في إيمانه حيث أظهر خلاف ما يبطن ليستفيد من مزايا الإيمان . الرابعة : أن يؤمن بقلبه ، وينطق كلمة الكفر بلسانه . وهذه الحالة الرابعة هي المرادة في هذه الآية . فالحق تبارك وتعالى يعطينا هنا تفصيلاً لمن كفر بعد إيمان ، وما سبب هذا الكفر ؟ وما جزاؤه ؟ قوله : { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ … } [ النحل : 106 ] . هذه جملة الشرط تأخَّر جوابها إلى آخر الآية الكريمة ، لنقف أولاً على تفصيل هذا الكفر ، فإما أن يكون عن إكراه لا دَخْلَ للإنسان فيه ، فيُجبر على كلمة الكفر ، في حين قلبه مطمئن بالإيمان . { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ … } [ النحل : 106 ] . ثم سكت عنه القرآن الكريم ليدلّنا على أنه لا شيءَ عليه ، ولا بأسَ أن يأخذ المؤمن بالتقية ، وهي رخصة تقي الإنسان موارد الهلاك في مثل هذه الأحوال . وفي تاريخ الإسلام نماذج متعددة أخذت بهذه الرخصة ، ونطقتْ كلمة الكفر وهي مطمئنة بالإيمان . وفي الحديث الشريف : " رفع عن أمتي : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه " . ويذكر التاريخ أن ياسر أبا عمار وزوجه سُمية أول شهيدين في الإسلام ، فكيف استشهدا ؟ كانا من المسلمين الأوائل ، وتعرّضوا لكثير من التعذيب حتى عرض عليهم الكفار النطق بكلمة الكفر مقابل العفو عنهما ، فماذا حدث من هذين الشهيدين ؟ صَدَعا بالحق وأصرَّا على الإيمان حتى نالا الشهادة في سبيل الله ، ولم يأخذا برخصة التقية . وكان ولدهما عمار أول مَنْ أخذ بها ، حينما تعرّض لتعذيب المشركين . " وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمار بن ياسر كفر ، فأنكر صلى الله عليه وسلم هذا ، وقال : " إن إيمان عمار من مفرق رأسه إلى قدمه ، وإن الإيمان في عمار قد اختلط بلحمه ودمه " . فلما جاء عمار أقبل على رسول الله وهو يبكي ، ثم قص عليه ما تعرَّض له من أذى المشركين ، وقال : والله يا رسول الله ما خلَّصني من أيديهم إلا أنِّي تناولتك وذكرت آلهتهم بخير ، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن مسح دموع عمار بيده الشريفة وقال له " إنْ عادوا إليك فَقُلْ لهم ما قلت " . وقد أثارت هذه الرخصة غضب بعض الصحابة ، فراجعوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : فما بال بلال ؟ فقال : " عمار استعمل رخصة ، وبلال صدع بالحق " " . ولا شكَّ أن هاتين منزلتان في مواجهة الباطل وأهله ، وأن الصَّدْعَ بالحق والصبر على البلاء أعْلَى منزلةً ، وأَسْمَى درجة من الأَخْذ بالرخصة لأن الأول آمن بقلبه ولسانه ، والآخر آمن بقلبه فقط ونطق لسانه الكفر . لذلك ، " ففي حركة الردة حاول مسيلمة الكذاب أن يطوف بالقبائل لينتزع منهم شهادة بصدق نُبوّته ، فقال لرجل : ما تقول في محمد ؟ قال : رسُول الله ، قال : فما تقول فيَّ ؟ فقال الرجل في لباقة : وأنت كذلك ، يعني أخرج نفسه من هذا المأزق دون أن يعترف صراحة بنبوة هذا الكذاب . فقابل آخر وسأله : ما تقول في محمد ؟ قال : رسول الله ، قال : وما تقول فيَّ ؟ فقال الرجل متهكماً : اجهر لأني أصبحت أصمَّ الآن ، وأنكر على مسيلمة ما يدعيه فكان جزاؤه القتل . فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما قال : " أحدهما استعمل الرخصة ، والآخر صدع بالحق " . وقد تحدَّث العلماء عن الإكراه في قوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ … } [ النحل : 106 ] . وأوضحوا وجوه الإكراه وحكم كل منها ، على النحو التالي : - إذا أكره الإنسان على أمر ذاتيٍّ فيه . كأن قيل له : اشرب الخمر وإلاَّ قتلتُك أو عذبتُك قالوا : يجب عليه في هذه الحالة أنْ يشربها وينجو بنفسه لأنه أمر يتعلق به ، ومن الناس مَنْ يعصون الله بشربها . فإنْ قيل له : اكفر بالله وإلاَّ قتلتُك أو عذبتُك ، قالوا : هو مُخيّر بين أن يأخذ بالتقيّة هنا ، ويستخدم الرخصة التي شرعها الله له ، أو يصدع بالحق ويصمد . - أما إذا تعلّق الإكراه بحقٍّ من حقوق الغير ، كأنْ قيل لك : اقتل فلاناً وإلا قتلتك ، ففي هذه الحالة لا يجوز لك قَتْله لأنك لو قتلتهُ لقُتِلْت قِصَاصاً ، فما الفائدة إذن ؟ وبعد أن تحدّث الحق تبارك وتعالى عن حكم مَنْ أكرهَ وقلبه مطمئن بالإيمان ، يتحدث عن النوع الآخر : { وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً … } [ النحل : 106 ] . أي : نطق كلمة الكفر راضياً بها ، بل سعيدة بها نفسه ، مُنْشرِحاً بها صدره ، وهذا النوع هو المقصود في جواب الشرط . { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 106 ] . فإنْ كانت الآيات قد سكتت عَمَّنْ أُكرهَ ، ولم تجعل له عقوبة لأنه مكره ، فقد بيَّنت أن من شرح بالكفر صدراً عليه غضب من الله أي : في الدنيا . ولهم عذاب عظيم أي : في الآخرة . وكما رأينا في تاريخ الإسلام نماذج للنوع الأول الذي أُكْرِه وقلبه مطمئن بالإيمان ، كذلك رأينا نماذج لمن شرح بالكفر صَدْراً ، وهم المنافقون ، ومنهم مَنْ أسلم بعد ذلك وحَسُن إسلامه ، ومنهم عبد الله ابن سعد بن أبي السرح من عامر بن لؤي . ثم يقول الحق سبحانه : { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ … } .