Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 115-115)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحق سبحانه وتعالى بعد أنْ قال : { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلالاً طَيِّباً … } [ النحل : 114 ] . أراد أن يُكرِّر معنًى من المعاني سبق ذكره في البقرة والمائدة ، فقال في البقرة : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ البقرة : 173 ] . وقال تعالى في سورة المائدة : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ … } [ المائدة : 3 ] . وهذه الأشياء كنتم تأكلونها وهي مُحرّمة عليكم ، والآن ما دُمْنَا ننقذكم ، ونجعل لكم معونة إيمانية من رسول الله ، فكلوا هذه الأشياء حلالاً طيباً . ولكن ، لماذا كرَّر هذا المعنى هنا ؟ التكرار هنا لأمرين : الأول : أنه سبحانه لا يريد أنْ يعطيهم صورة عامة بالحكم ، بل صورة مُشخَّصة بالحالة لأنهم كانوا جَوْعى يريدون ما يأكلونه ، حتى وإنْ كانت الجيف ، ولكن الإسلام يُحرِّم الميتة ، فأوضح لهم أنكم بعد ذلك ستأكلون الحلال الطيب . ثانياً : أن النص يختلف ، ففي البقرة : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ … } [ البقرة : 173 ] . وهنا : { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ … } [ النحل : 115 ] . وليس هنا من قبيل التفنُّن في الأسلوب ، بل المعنى مختلف تماماً ذلك لأن الإهلال هو رَفْع الصوت عند الذبح ، فكانوا يرفعون أصواتهم عند الذبح ، ولكن والعياذ بالله يقولون : باسم اللات ، أو باسم العُزّى ، فيُهلون بأسماء الشركاء الباطلين ، ولا يذكرون اسم الله الوهاب . فمرَّة يُهلُّون به لغير الله ، ومرة يُهِلُّون لغير الله به . كيف ذلك ؟ قالوا : لأن الذبْح كان على نوعين : مرة يذبحون للتقرُّب للأصنام ، فيكون الأصل في الذبح أنه أُهِلَّ لغير الله به . أي : للأصنام . ومرَّة يذبحون ليأكلوا دون تقرُّب لأحد ، فالأصل فيه أنه أُهِلَّ به لغير الله . إذن : تكرار الآية لحكمة ، وسبحان مَنْ هذا كلامه . وقوله : { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ … } [ النحل : 115 ] . الاضطرار : أَلاَّ تجد ما تأكله ، ولا ما يقيم حياتك . والحق سبحانه وتعالى يعطينا هنا رخصة عندما تُلجِئنا الضرورة أن نأكل من هذه الأشياء المحرَّمة بقدر ما يحفظ الحياة ويسُدُّ الجوع ، فمَعنى غَيْر بَاغٍ غير مُتجاوزٍ للحدِّ ، فلو اضطررْتَ وعندك مَيْتة وعندك طعام حلال ، فلا يصحّ أن تأكل الميتة في وجود الحلال . { وَلاَ عَادٍ } [ النحل : 115 ] . أي : ولا مُعْتَدٍ على القدر المرخَّص به ، وهو ما يمسك الحياة ويسُدُّ جوعك فقط ، دون شِبَع منها . ويقول تعالى : { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 115 ] . وفي البقرة : { فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ … } [ البقرة : 173 ] . فالمعنى واحد ، ولكن هنا ذكر المغفرة والرحمة ، وهناك ذكر سببهما . وتجد الإشارة هنا إلى ما يتشدَّق به البعض من الملاحدة الذين يبحثون في القرآن عن مَغْمز ، فيقولون : طالما أن الله حرَّم هذه الأشياء ، فما فائدتها في الكون ؟ نقول : أتظنون أن كل موجود في الكون وُجِد ليُؤكل ، أليس له مهمة أخرى ؟ ومن ورائه مصلحة أخرى غير الأَكْل ، فإنْ حرَّم الإسلام أكْله فقد أباح الانتفاع به من وجه آخر . فالخنزير مثلاً حَرَّم الله أكْله ، ولكن خلَقه لمهمة أخرى ، وجعل له دَوْراً في نظافة البيئة ، حيث يلتهم القاذورات ، فهو بذلك يُؤدِّي مهمة في الحياة . وكذلك الثعابين لا نأكلها ، ولها مهمة في الحياة أيضاً ، وهي أنْ تُجهِّز لنا السُّم في جوفها ، وبهذا السم تعالج بعض الداءات والأمراض ، وغير ذلك من الأمثلة كثير . وكذلك يجب أنْ نعلمَ أن الحق سبحانه ما حرَّم علينا هذه الأشياء إلا لحكمة ، وعلى الإنسان أن يأخذ من واقع تكوينه المادي وتجاربه ما يُقرِّب له المعاني القيمية الدينية ، فلو نظر إلى الآلات التي تُدار من حوله من ماكينات وسيارات وطائرات وخلافه لوجد لكل منها وقوداً ، ربما لا يناسب غيرها ، حتى في النوع الواحد نرى أن وقود السيارات وهو البنزين مثلاً لا يناسب الطائرات التي تستخدم نفس الوقود ، ولكن بدرجة نقاء أعلى . إذن : لكل شيء وقود مناسب ، وكذلك أنت أيها الإنسان لك وقودك المناسب لك ، وبه تستطيع أداء حركتك في الحياة ، وأنت صَنْعة ربك سبحانه ، وهو الذي يُحدِّد لك ما تأكله وما لا تأكله ، ويعلم ما يُصلحك وما يضرُّك . والشيء المحرَّم قد يكون مُحرَّماً في ذاته كالميتة لما فيها من ضرر ، وقد يكون حلالاً في ذاته ، ولكنه مُحرَّم بالنسبة لشخص معين ، كأن يُمنعَ المريض من تناول طعام ما لأنه يضرُّ بصحته أو يُؤخِّر شفاءه ، وهو تحريم طارىء لحين زوال سببه . وصورة أخرى للتحريم ، وهي أن يكون الشيء حلالاً في ذاته ولا ضررَ في تناوله ، ومع ذلك تحرمه عقوبةً ، كما تفعل في معاقبة الطفل إذا أساء فنحرمه من قطعة الحلوى مثلاً . إذن : للتحريم أسباب كثيرة ، سوف نرى أمثلة منها قريباً . ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا … } .