Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 120-120)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

بعد أن ذكرتْ الآيات طرفاً من سيرة اليهود ، وطرفاً من سيرة أهل مكة تعرَّضتْ لخليل الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام . والسؤال : لماذا إبراهيم بالذات دون سائر الأنبياء ؟ ذلك لأنه أبو الأنبياء ، وله مكانته بين الأنبياء ، والجميع يتمحكون فيه ، حتى المشركون يقولون : نحن على دين إبراهيم ، والنصارى قالوا عنه : إنه نصراني . واليهود قالوا : إنه يهودي . فجاءت الآية الكريمة تحلل شخصية إبراهيم عليه السلام ، وتُوضِّح مواصفاتها ، وتردُّ وتُبطِل مزاعمهم في إبراهيم عليه السلام ، وهاكم مواصفاته : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً … } [ النحل : 120 ] . أُمَّة : الأمة في معناها العام : الجماعة ، وسياق الحديث هو الذي يُحدِّد عددها ، فنقول مثلاً : أمة الشعراء . أي : جماعة الشعراء ، وقد تكون الأمة جماعة قليلة العدد ، كما في قوله تعالى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ … } [ القصص : 23 ] . فسمى جماعة من الرعاة أمة لأنهم خرجوا لغرض واحد ، وهو سَقْي دوابهم . وتُطلَق الأمة على جنس في مكان ، كأمة الفرس ، وأمة الروم ، وقد تُطلِق على جماعة تتبع نبياً من الأنبياء ، كما قال سبحانه : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] . وحين نتوسَّع في معنى الأمة نجدها في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم تشمل جميع الأمم لأنه أُرسِل للناس كافّة ، وجمع الأمم في أمة واحدة ، كما قال تعالى : { إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [ الأنبياء : 92 ] . ومعنى أمة واحدة . أي : جامعة لكل الأمم . فالمعنى - إذن - أن إبراهيم عليه السلام - يقوم مقام أمة كاملة لأن الكمالات المطلقة لله وحده ، والكمالات الموهوبة من الله لخلْقه في الرسل تُسمَّى كمالات بشرية موهوبة من الله . أما ما دون الرسل فقد وُزِّعت عليهم هذه الكمالات ، فأخذ كل إنسان واحداً منها ، فهذا أخذ الحلم ، وهذا الشجاعة ، وهذا الكرم ، وهكذا لا تجتمع الكمالات إلا في الرسل . فإذا نظرتَ إلى إبراهيم - عليه السلام - وجدتَ فيه من المواهب ما لا يُوجد إلا في أمة كاملة . كذلك رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حينما حَدَّد موقعه بين رسالات الله في الأرض يقول : " الخير فيَّ - وهذا هو الكمال البشري الذي أعطاه الله إياه - وفي أمتي " . أي : أن كل واحد منهم أخذ جزءًا من هذا الكمال ، فكأن كماله صلى الله عليه وسلم مُبعثر في أمته كلها . لذلك حين تتتبع تاريخ إبراهيم - عليه السلام - في كتاب الله تعالى تجد كل موقف من مواقفه يعطيك خَصْلة من خصال الخير ، وصِفة من صفات الكمال ، فإذا جمعتَ هذه الصفات وجدتها لا توجد إلا في أمة بأسْرها ، فهو إمام وقدوة جامعة لكل خصال الخير . ومن معاني أمة : أنه عليه السلام يقوم مقام أمة في عبادة الله وطاعته . وقوله : { قَانِتاً لِلَّهِ … } [ النحل : 120 ] . أي : خاشعاً خاضعاً لله تعالى في عبادته . { حَنِيفاً } [ النحل : 120 ] . الحنف في الأصل : الميْل ، وقد جاء إبراهيم - عليه السلام - والكون على فساد واعوجاج في تكوين القيم ، فمال إبراهيم عن هذا الاعوجاج ، وحَاد عن هذا الفساد . والحق سبحانه وتعالى لا يبعث الرسل إلا إذا طَمَّ الفساد ، إذن : ميْله عن الاعوجاج والفساد ، فمعناه أنه كان مستقيماً معتدلاً على الدين الحق ، مائلاً عن الاعوجاج حائداً عن الفساد . ثم يُنهي الحق سبحانه الآية بقوله : { وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 120 ] . وهذه هي الصفة الرابعة لخليل الله إبراهيم بعد أن وصفه بأنه كان أمة قانتاً لله حنيفاً ، وجميعها تنفي عنه الشرك بالله ، فما فائدة نَفْي الشرك عنه مرة أخرى في : { وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 120 ] . يجب أنْ نُفرّق بين أنواع الشرك ، فمنه الشرك الأكبر ، وهو أن تجعل لله شركاء ، وهو القمة في الشرك . ومنه الشرك الخفي ، بأن تجعل للأسباب التي خلقها دَخْل في تكوين الأشياء . فالآية هنا : { وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 120 ] . أي : الشرك الخفي ، فالأوصاف السابقة نفتْ عنه الشرك الأكبر ، فأراد سبحانه أن ينفي عنه شركَ الأسباب أيضاً ، وهو دقيق خفيّ . ولذلك عندما أُلقِيَ - عليه السلام - في النار لم يلتفت إلى الأسباب وإنْ جاءت على يد جبريل - عليه السلام - ، فقال له حينما عرض عليه المساعدة : أما إليك فلا . فأين الشرك الخفي - إذن - والأسباب عنده معدومة من البداية ؟ ثم يقول الحق سبحانه : { شَاكِراً لأَنْعُمِهِ … } .