Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 125-125)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فبعد أن تحدثتْ الآيات عن النموذج الإيماني الأعلى في الإنسان في شخص أبي الأنبياء إبراهيم ، وجعلتْ من أعظم مناقبه أن الله أمر خاتم رسُله باتباعه ، أخذتْ في بيان الملامح العامة لمنهج الدعوة إلى الله . قوله : { ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ … } [ النحل : 125 ] . الحق تبارك وتعالى لا يُوجّه هذا الأمر بالدعوة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يعلم أنه سيُنفِّذ ما أُمِر به ، وسيقوم بأمر الدعوة ، ويتحمل مسئوليتها . { ٱدْعُ } : بمعنى دُلَّ الناس وارشدهم . { سَبِيلِ رَبِّكَ } [ النحل : 125 ] . السبيل هو الطريق والمنهج ، والحكمة : وَضْع الشيء في موضعه المناسب ، ولكن لماذا تحتاج الدعوةُ إلى الله حكمةً ؟ لأنك لا تدعو إلى منهج الله إلا مَنِ انحرف عن هذا المنهج ، ومَنِ انحرف عن منهج الله تجده أَلِف المعصية وتعوَّد عليها ، فلا بُدَّ لك أنْ ترفقَ به لِتُخرجه عما ألف وتقيمه على المنهج الصحيح ، فالشدة والعنف في دعوة مثل هذا تنفره ، لأنك تجمع عليه شدتين : شدة الدعوة والعنف فيها ، وشدة تَرْكه لما أحبَّ وما أَلِفَ من أساليب الحياة ، فإذا ما سلكتَ معه مَسْلَك اللِّين والرِّفق ، وأحسنت عَرْض الدعوة عليه طاوعك في أنْ يتركَ ما كان عليه من مخالفة المنهج الإلهي . ومعلوم أن النصْح في عمومه ثقيل على النفس ، وخاصة في أمور الدين ، فإياك أن تُشعِر مَنْ تنصحه أنك أعلم منه أو أفضل منه ، إياك أن تواجهه بما فيه من النقص ، أو تحرجه أمام الآخرين لأن كل هذه التصرّفات من الداعية لا تأتي إلا بنتيجة عكسية ، فهذه الطريقة تثير حفيظته ، وربما دَعَتْه إلى المكابرة والعناد . وهذه الطريقة في الدعوة هي المرادة من قوله تعالى : { بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ … } [ النحل : 125 ] . ويُروى في هذا المقام - مقام الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة - قصة دارت بين الحسن والحسين رضي الله عنهما ، هذه القصة تجسيدٌ صادق لما ينبغي أنْ يكون عليه الداعية . فيُروى أنهما رَأيَا رجلاً لا يُحسِن الوضوء ، وأراد أنْ يُعلِّماه الوضوء الصحيح دون أنْ يجرحَا مشاعره ، فما كان منهما إلا أنهما افتعلا خصومة بينهما ، كل منهما يقول للآخر : أنت لا تُحسِن أنْ تتوضأ ، ثم تحاكما إلى هذا الرجل أنْ يرى كلاً منهما يتوضأ ، ثم يحكم : أيهما أفضل من الآخر ، وتوضأ كل منهما فأحسن الوضوء ، بعدها جاء الحُكْم من الرجل يقول : كل منكما أحسن ، وأنا الذي ما أحسنْتُ . إنه الوعظ في أعلى صورة ، والقدوة في أحكم ما تكون . مثال آخر للدعوة يضربه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم ، حينما أتاه شاب في فَوْرة شبابه ، يشتكي عدم صَبْره عن رغبة الجنس ، وهي - كما قلنا - من أشرس الغرائز في الإنسان . جاء الشاب وقال : " يا رسول الله إئذن لي في الزنا " . هكذا تجرأ الشاب ولم يُخْفِ عِلّته ، هكذا لجأ إلى الطبيب ليطلب الدواء صراحة ، ومعرفة العلة أولَ خَطوات الشفاء . فماذا قال رسول الله ؟ انظر إلى منهج الدعوة ، كيف يكون ، وكيف استلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الداء من نفس هذا الشاب ؟ فلم يزجره ، ولم ينهره ، ولم يُؤذه ، بل أخذه وربَّت على كتفه في لطف ولين ، ثم قال : " أتحبه لأمك ؟ قال : لا يا رسول الله ، جُعِلْتَ فِدَاك . قال : فكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم ، قال : أَتُحبه لأختكَ ؟ قال : لا يا رسول الله جُعِلْتُ فِدَاك ، قال : " فكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم " . وهكذا حتى ذكر العمة والخالة والزوجة ، ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده الشريفة على صدر الشاب ودعا له : " اللهم نَقِّ صدره ، وحَصِّن فَرْجه " فقام الشاب وأبغض ما يكون إليه أن يزني ، وهو يقول : فوالله ما هَمَّتْ نفسي بشيء من هذا ، إلا ذكرْتُ أمي وأختي وزوجتي " . فلنتأمل هذا التلطُّف في بيان الحكم الصحيح ، فمعالجة الداءات في المجتمع تحتاج إلى فقه ولباقة ولين وحُسْن تصرف ، إننا نرى حتى الكفرة حينما يصنعون دواءً مُرّاً يغلفونه بغُلالة رقيقة حُلْوة المذاق ليستسيغه المريض ، ويسهل عليه تناوله . وما أشبه علاج الأبدان بعلاج القلوب في هذه المسألة . ويقول أهل الخبرة في الدعوة إلى الله : النصح ثقيل فلا تُرْسِله جبلاً ، ولا تجعله جدلاً … والحقائق مُرّة فاستعيروا لها خِفّة البيان . وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع عن شيء لا يرضيه من ذنب أو فاحشة في مجتمع الإيمان بالمدينة كان يصعد منبره الشريف ، ويقول : " ما بال أقوام قالوا كذا وكذا " . ويكتفي بالتوجيه العام دون أنْ يجرحَ أحداً من الناس على حَدِّ قولهم في الأمثال : إياك أعني واسمعي يا جاره . ومن ذلك ما كان يلجأ إليه العقلاء في الريف حينما يتعرض أحدٌ للسرقة ، أو يضيع منه شيء ذو قيمة ، فكانوا يعلنون عن فَقْد الشيء الذي ضاع أو سُرِق ويقول : ليلة كذا بعد غياب القمر سوف نرمي التراب . ومعنى " نرمي التراب " أن يحضر كل منهم كمية من التراب يلقيها أمام بيت صاحب هذا الشيء المفقود ، وفي الصباح يبحثون في التراب حتى يعثروا على ما فُقِد منهم ، ويصلوا إلى ضالَّتهم دون أنْ يُفتضحَ الأمر ، ودون أن يُحرَج أحد ، وربما لو واجهوا السارق لأنكر وتعقدت المسألة . وقوله سبحانه : { وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ … } [ النحل : 125 ] . والجدل مناقشة الحجج في قضية من القضايا ، وعلى كُلِّ من الطرفين أنْ يعرضَ حُجّته بالتي هي احسن . أي : في رفق ولين ودون تشنُّج أو غَطْرسة . ويجب عليك في موقف الجدال هذا ألاَّ تُغضِبَ الخصْم ، فقد يتمحَّك في كلمة منك ، ويأخذها ذريعة للانصراف من هذا المجلس . وقوله سبحانه : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } [ النحل : 125 ] . قد يتساءل البعض : ما علاقة هذا التذييل للآية بموضوع الدعوة إلى الله ؟ يريد الحق سبحانه أن يُبيّن لنا حساسية هذه المهمة ، وأنها تُبنى على الإخلاص لله في توجيه النصيحة ، ولا ينبغي للداعية أبداً أنْ يغُشَّ في دعوته ، فيقصد من ورائها شيئاً آخر ، وقد تقوم بموعظة وفي نفسه استكبار على الموعوظ ، أو شعور أنك أفضل منه أو أعلم منه . ومن الناس - والعياذ بالله - مَنْ يجمع القشور عن موضوع ما ، فيظن أنه أصبح عالماً ، فيضر الناس أكثر مِمّا ينفعهم . إذن : إنْ قُبِل الغش في شيء فإنه لا يُقبل في مجال الدعوة إلى الله ، فإياك أنْ تغشَّ بالله في الله لأنه سبحانه وتعالى أعلم بمَنْ يضل الناس ، ويصدهم عن سبيل الله ، وهو أعلم بالمهتدين . ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ … } .