Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 126-126)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

نلاحظ أن هذا المعنى ورد في قوله تعالى : { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ … } [ البقرة : 194 ] . وبمقارنة الآيتين نرى أنهما يقرران المثلية في رد الاعتداء : { فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ … } [ النحل : 126 ] . و { فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ … } [ البقرة : 194 ] . إذن : الحق سبحانه ، وإنْ شرع لنا الرد على الاعتداء بالمثل ، إلا أنه جعله صعباً من حيث التنفيذ ، فمَنِ الذي يستطيع تقدير المثلية في الرد ، بحيث يكون مثله تماماً دون اعتداء ، ودون زيادة في العقوبة ، وكأن في صعوبة تقدير المثلية إشارةً إلى استحباب الانصراف عنها إلى ما هو خير منها ، كما قال تعالى : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ النحل : 126 ] . فقد جعل الله في الصبر سَعة ، وجعله خيراً من رَدِّ العقوبة ، ومقاساة تقدير المثلية فيها ، فضلاً عما في الصبر من تأليف القلوب ونَزْع الأحقاد ، كما قال الحق سبحانه : { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] . ففي ذلك دَفْع لشراسة النفس ، وسَدٌّ لمنافذ الانتقام ، وقضاء على الضغائن والأحقاد . وقوله : { لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ النحل : 126 ] . الخيرية هنا من وجوه : أولاً : في الصبر وعدم رَدِّ العقوبة بمثلها إنهاءٌ للخصومات ، وراحة للمجتمع أن تفزعه سلسلة لا تنتهي من العداوة . ثانياً : مَنْ ظُلِم من الخلق ، فصبر على ظلمهم ، فقد ضمن أن الله تعالى في جواره لأن الله يغار على عبده المظلوم ، ويجعله في معيته وحفظه لذلك قالوا : لو علم الظالم ما أعدَّه الله للمظلوم لَضنَّ عليه بالظلم . والمتتبع لآيات الصبر في القرآن الكريم يجد تشابهاً في تذييل بعض الآيات . يقول تعالى : { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [ لقمان : 17 ] . وفي آية أخرى : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [ الشورى : 43 ] . ولا ننسى أن المتكلم هو الله ، إذن : ليس المعنى واحداً ، فلكل حرف هنا معنى ، والمواقف مختلفة ، فانظر إلى دِقّة التعبير القرآني . ولما كانت المصائب التي تصيب الإنسان على نوعين : النوع الأول : هناك مصائب تلحق الإنسان بقضاء الله وقدره ، وليس له غريم فيها ، كمن أُصيب في صحته أو تعرَّض لجائحة في ماله ، أو انهار بيته … الخ . وفي هذا النوع من المصائب يشعر الإنسان بألم الفَقْد ولذْعة الخسارة ، لكن لا ضغن فيها على أحد . إذن : الصبر على هذه الأحداث قريب لأنه ابتلاء وقضاء وقدر ، فلا يحتاج الأمر بالصبر هنا إلى توكيد ، ويناسبه قوله تعالى : { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [ لقمان : 17 ] . أما النوع الآخر : فهو المصائب التي تقع بفعل فاعل ، كالقتل مثلاً ، فإلى جانب الفَقْد يوجد غريم لك ، يثير حفيظتك ، ويهيج غضبك ، ويدعوك إلى الانتقام كلما رأيته ، فالصبر في هذه أصعب وحَمْل النفس عليه يحتاج إلى توكيد كما في الآية الثانية : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [ الشورى : 43 ] . فاستعمل هنا لام التوكيد لأن الصبر هنا شاقّ ، والفرصة مُتَاحَة للشيطان لِيُؤلّب القلوب ، ويثير الضغائن والأحقاد . كما نلاحظ في الآية الأولى قال : وَاصْبِرْ . وفي الثانية قال : صَبَر وغَفَر لأن أمامه غريماً يدعوه لأنْ يغفر له . ويُحكى في قصص العرب قصة اليهودي المرابي الذي أعطى رجلاً مالاً على أنْ يردَّه في أجل معلوم ، واشترط عليه إنْ لم يَفِ بالسداد في الوقت المحدد يقطع رَطْلاً من لحمه ، ووافق الرجل ، وعند موعد السداد لم يستطع الرجل أداء ما عليه . فرفع اليهودي الأمر إلى القاضي وقَصَّ عليه ما بينهما من اتفاق ، وكان القاضي صاحب فِطْنة فقال : نعم العقد شريعة المتعاقدين ، وأمر له بسكين . وقال : خُذْ من لحمه رَطْلاً ، ولكن في ضربة واحدة ، وإنْ زاد عن الرطل أو نقص أخذناه من لحمك أنت . ولما رأى اليهودي مشقة ما هو مُقْدِم عليه آثر السلامة وتصالح مع خصمه . والسؤال الآن : ما علاقة هذه الآية : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ … } [ النحل : 126 ] . بما قبلها : { ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } [ النحل : 125 ] . الدعوة إلى منهج يلفت الإنسان - خليفة الله في أرضه - أنْ يلتزمَ بمنهج الله الذي استخلفه ، ووضع له هذا المنهج لِيُنظّم حركة حياته ، والداعية يواجه هؤلاء الذين يُفسدون في الأرض ، ويحققون لأنفسهم مصالح على حساب الغير ، والذي يحقق لنفسه مصلحة على حساب غيره لا بُدَّ أن يكون له قوة وقدرة ، بها يطغى ويستعلي ويظلم . فإذا جاء منهج الله تعالى ليعدل حركة هؤلاء ويُخرجهم مما أَلفُوه ، وينزع منهم سلطان الطغيان والظلم ، ويسلبهم هذا السوط الذي يستفيدون به ، فلا بُدَّ أنْ يُجادلوه ويصادموه ويقفوا في وجهه ، فقد جمع عليهم شدة النصح والإصلاح ، وشدة تَرْك ما ألفوه . فعلَى الداعية - إذن - أن يتحلى بالحكمة والموعظة الحسنة ، وأن يجادلهم بالتي هي أحسن ، فإذا ما تعدَّى أمرُهم إلى الاعتداء على الداعية ، إذا ما استشرى الفساد وغلبت شراسة الطباع ، فسوف نحتاج إلى أسلوب آخر ، حيث لم يَعُدْ يُجدي أسلوب الحكمة . ولا بُدَّ لنا أن نقفَ الموقف الذي تقتضيه الرجولة العادية ، فضلاً عن الرجولة الإيمانية ، وأن يكون لدينا القدرة على الرد الذي شرعه لنا الحق سبحانه وتعالى ، دون أن يكون عندنا لَدَد في الخصومة ، أو إسراف في العقوبة . فجاء قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ … } [ النحل : 126 ] . وفي الآية تحذير أن يزيدَ الردّ على مثله ، وبذلك يتعلم الخصوم أنك خاضع لمنهج رباني عادل يستوي أمامه الجميع ، فهم وإن انحرفوا وأجرموا فإن العقاب بالمثل لا يتعداه ، ولعل ذلك يلفتهم إلى أن الذي أمر بذلك لم يطلق لشراسة الانتقام عنانها ، بل هَدَّأَها ودعاها إلى العفو والصفح ، ليكون هذا أدعى إلى هدايتهم . وهذا التوجيه الإلهي في تقييد العقوبة بمثلها قبل أن يتوجه إلى أمته صلى الله عليه وسلم توجّه إليه صلى الله عليه وسلم في تصرُّف خاص ، لا يتعلق بمؤمن على عموم إيمانه ، ولكن بمؤمن حبيب إلى رسول الله ، وصاحب منزلة عظيمة عنده ، إنه عمه وصاحبه حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء رضي الله عنه . فقد مثَّل به الكفار في أُحُد ، وشقَّتْ هند بطنه ، ولاكت كبده ، فشقَّ الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأثَّر في نفسه ، وواجه هذا الموقف بعاطفتين : عاطفته الإيمانية ، وعاطفة الرحم والقرابة فهو عمه الذي آزره ونصره ، ووقف إلى جواره ، فقال في انفعاله بهذه العاطفة : " لئن أظهرني الله عليهم لأُمثِّلنَّ بثلاثين رجلاً منهم " . ولكن الحق سبحانه العادل الذي أنزل ميزان العدل والحق في الخلق هَدَّأ من رَوْعه ، وعدَّل له هذه المسألة ولأمته من بعده ، فقال : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ … } [ النحل : 126 ] . والمتأمل للأسلوب القرآني في هذه الآية يلحظ فيها دعوة إلى التحنُّن على الخصم والرأفة به ، فالمتحدث هو الله سبحانه ، فكل حرف له معنى ، فلا تأخذ الكلام على إجماله ، ولكن تأمل فيه وسوف تجد من وراء الحرف مراداً وأن له مطلوباً . لماذا قال الحق سبحانه : وإنْ ولم يستخدم إذا مثلاً ؟ إن عاقبتم : كأن المعنى : كان يحب ألاَّ تعاقبوا . أما إذا فتفيد التحقيق والتأكيد ، والحق سبحانه يريد أنْ يُحنِّن القلوب ، ويضع ردَّ العقوبة بمثلها في أضيق نطاق ، فهذه رحمة حتى مع الأعداء ، هذه الرحمة تُحبِّبهم في الإسلام ، وتدعوهم إليه ، وبها يتحوَّل هؤلاء الأعداء إلى جنود في صفوف الدعوة إلى الله . كما أن في قوله : عَاقَبْتُمْ دليل على أن ردَّ العقوبة يحتاج إلى قوة واستعداد ، كما قال تعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ … } [ الأنفال : 60 ] . كأنه يقول : كونوا دائماً على استعداد ، وفي حال قوة تُمكنكم من الردِّ إذا اعتُدِي عليكم ، كما أن في وجود القوة والاستعداد ما يردع العدو ويرهبه ، فلا يجرؤ على الاعتداء من البداية ، وبالقوة والاستعداد يُحفظ التوازن في المجتمع ، فالقوي لا يفكّر أحد في الاعتداء عليه . وهذا ما نراه الآن بين دول العالم في صراعها المحموم حول التسلُّح بأسلحة فاتكة . وكلمة : { مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ … } [ النحل : 126 ] . نلاحظ أن الردَّ على الاعتداء يُسمَّى عقوبة ، لكن الاعتداء الأول لماذا نُسميه أيضاً عقوبة ؟ قالوا : لأن هذه طريقة في التعبير تسمَّى " المشاكلة " ، أي : جاءت الأفعال كلها على شاكلة واحدة . ومن ذلك قوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] . لأن ردَّ السيئة لا يُسمَّى سيئة . ولسائل في هذه القضية أن يسأل : طالما أن الإسلام يسعى في هذه المسألة إلى العفو ، فلماذا لم يُقرِّره من البداية ؟ وما فائدة الكلام عن العقوبة بالمثل ؟ نقول : لأن المجتمع لا يكون سليم التكوين إلا إذا أَمِن كل إنسان فيه على نفسه وعِرْضه وماله . . إلخ . وهذا الأمن لا يتأتَّى إلا بقوة تحفظه ، كما أن للمجتمع توازناً ، هذا التوازن في المجتمع لا يُحفظ إلا بقوة تضمن أداء الحقوق والواجبات ، وتضمن أن تكون حركة الإنسان في المجتمع دون ظلم له . كما أن للحق سبحانه حكمة سامية في تشريع العقوبة على الجرائم ، فهدف الشارع الحكيم أن يَحُدَّ من الجريمة ، ويمنع حدوثها ، فلو علم القاتل أنه سيُقتل ما تجرّأ على جريمته ، ففي تشريع العقوبة رحمة بالمجتمع وحفظ لسلامته وأمْنه . ونرى البعض يعترض على عقوبة الردة ، فيقول : كيف تقتلون مَن يرتد عن دينكم ؟ وأين حرية العقيدة إذن ؟ نقول : في تشريع قتل المرتد عن الإسلام تضييق لمنافذ الدخول في هذا الدين ، بحيث لا يدخله أحد إلا بعد اقتناع تام وعقيدة راسخة ، فإذا علم هذا الحكم من البداية فللمرء الحرية يدخل أو لا يدخل ، لا يغصبه أحد ، ولكن ليعلم أنه إذا دخل ، فحكم الردة معلوم . إذن : شرعَ الإسلامُ العقوبةَ ليحفظ للمجتمع توازنه ، وليعمل عملية ردع حتى لا تقع الجريمة من البداية ، لكن إذا وقعتْ يلجأ إلى علاج آخر يجتثُّ جذور الغِلِّ والأحقاد والضغائن من المجتمع . لذلك سبق أن قلنا عن عادة الأخذ بالثأر في صعيد مصر : إنه يظل في سلسلة من القتل والثأر لا تنتهي ، وتفزِّع المجتمع كله ، حتى الآمنين الذين لا جريرة لهم ، وتنمو الأحقاد والكراهية بين العائلات في هذا الجو الشائك ، حتى إذا ما تشجَّع واحد منهم ، فأخذ كفنه على يديه وذهب إلى وليّ القتيل ، وألقى بنفسه بين يديه قائلاً : ها أنا بين يديك وكفني معي ، فاصنع بي ما شئت ، وعندها تأبى عليهم كرامتهم وشهامتهم أنْ يثأروا منه ، فيكون العفو والصفح والتسامح نهاية لسلسلة الثأر التي لا تنتهي . ثم يقول الحق سبحانه : { وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ … } .