Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 41-41)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المهاجرون قوم آمنوا بالله إيماناً صار إلى مرتبة من مراتب اليقين جعلتهم يتحمَّلون الأذى والظلم والاضطهاد في سبيل إيمانهم ، فلا يمكن أن يُضحِّي الإنسان بماله وأهله ونفسه إلا إذا كان لأمر يقينيّ . وقد جاءت هذه الآية بعد آية إثبات البعث الذي أنكره الكافرون وألحُّوا في إنكاره وبالغوا فيه ، بل وأقسموا على ذلك : { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ … } [ النحل : 38 ] . وهم يعلمون أن من الخلق مَنْ يُسيء ، ومنهم من يُحسِن ، فهل يعتقدون - في عُرْف العقل - أن يتركَ الله من أساء ليُعربد في خَلْق الله دون أن يُجازيه ؟ ذلك يعني أنهم خائفون من البعث ، فلو أنهم كانوا محسنين لَتَمنَّوا البعث ، أمَا وقد أسرفوا على أنفسهم إسرافاً يُشفِقون معه على أنفسهم من الحساب والجزاء ، فمن الطبيعي أنْ يُنِكروا البعث ، ويلجأوا إلى تمنية أنفسهم بالأماني الكاذبة ، ليطمئنوا على أن ما أخذوه من مظالم الناس ودمائهم وكرامتهم وأمنهم أمرٌ لا يُحاسبون عليه . وإذا كانوا قد أنكروا البعث ، ويوجد رسول ومعه مؤمنون به يؤمنون بالبعث والجزاء إيماناً يصل إلى درجة اليقين الذي يدفعهم إلى التضحية في سبيل هذا الإيمان … إذن : لا بُدَّ من وجود معركة شرسة بين أهل الإيمان وأهل الكفر ، معركة بين الحق والباطل . ومن حكمة الله أن ينتشر الإسلام في بدايته بين الضعفاء ، حتى لا يظن ظَانٌّ أن المؤمنين فرضوا إيمانهم بالقوة ، لا … هؤلاء هم الضعفاء الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم ، والكفار هم السادة … إذن : جاء الإسلام ليعاند الكبارَ الصناديدَ العتاة . وكان من الممكن أن ينصرَ الله هؤلاء الضعفاء ويُعلي كلمة الدين من البداية ، ولكن أراد الحق تبارك وتعالى أن تكون الصيحةُ الإيمانية في مكَّة أولاً لأن مكة مركز السيادة في جزيرة العرب ، وقريش هم أصحاب المهابة وأصحاب النفوذ والسلطان ، ولا تقوى أيَّ قبيلة في الجزيرة أن تعارضها ، ومعلوم أنهم أخذوا هذه المكانة من رعايتهم لبيت الله الحرام وخدمتهم للوافدين إليه . فلو أن الإسلام اختار بقعة غير مكة لَقَالوا : إن الإسلام استضعفَ جماعة من الناس ، وأغرَاهم بالقول حتى آمنوا به . لا ، فالصيحة الإسلاميةُ جاءت في أُذن سادة قريش وسادة الجزيرة الذين أمَّنهم الله في رحلة الشتاء والصيف ، وهم أصحاب القوة وأصحاب المال . وإذا كان الأمر كذلك ، فلماذا لم ينصر الله دينه في بلد السادة ؟ نقول : لا … الصيحة في أذن الباطل تكون في بلد السادة في مكة ، لكن نُصْرة الدين لا تأتي على يد هؤلاء السادة ، وإنما تأتي في المدينة . وهذا من حكمة الله تعالى حتى لا يقول قائل فيما بعد : إن العصبية لمحمد في مكة فرضتْ الإيمان بمحمد . . لا بل يريد أن يكون الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي خلق العصبية لمحمد ، فجاء له بعصبية بعيدة عن قريش ، وبعد ذلك دانتْ لها قريش نفسها . وما دامت هناك معركة ، فمَن المطحون فيها ؟ المطحون فيها هو الضعيف الذي لا يستطيع أنْ يحميَ نفسه … وهؤلاء هم الذين ظُلِموا … ظُلِموا في المكان الذي يعيشون فيه ولذلك كان ولا بُدَّ أن يرفع الله عنهم هذا الظلم . وقد جاء رَفْع الظلم عن هؤلاء الضعفاء على مراحل … فكانت المرحلة الأولى أن ينتقلَ المستضعفون من مكة ، لا إلى دار إيمان تحميهم وتساعدهم على نَشْر دينهم ، بل إلى دار أَمْن فقط يأمنون فيها على دينهم … مجرد أَمْن يتيح لهم فرصة أداء أوامر الدين . ولذلك استعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاد كلها لينظر أيَّ الأماكن تصلح دار أَمْن يهاجر إليها المؤمنون بدعوته فلا يعارضهم أحد ، فلم يجد إلا الحبشة ولذلك قال عنها : " إن بأرض الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد ، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه " . وتكفي هذه الصفة في ملك الحبشة ليهاجر إليه المؤمنون ، ففي هذه المرحلة من نُصْرة الدين لا نريد أكثر من ذلك ، وهكذا تمت الهجرة الأولى إلى الحبشة . ثم يسَّر الله لدينه أتباعاً وأنصاراً التقوْا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على النُّصْرة والتأييد ، ذلكم هم الأنصار من أهل المدينة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة ومَهَّدوا للهجرة الثانية إلى المدينة ، وهي هجرةٌ - هذه المرة - إلى دار أَمْن وإيمان ، يأمن فيها المسلمون على دينهم ، ويجدون الفرصة لنشره في رُبُوع المعمورة . ونقف هنا عند قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ … } [ النحل : 41 ] . ومادة هذا الفعل : هجر … وهناك فَرْق بين هجر وبين هاجر : هجر : أن يكره الإنسانُ الإقامةَ في مكان ، فيتركه إلى مكان آخر يرى أنه خَيْرٌ منه ، إنما المكان نفسه لم يُكرهه على الهجرة … أي المعنى : ترك المكان مختاراً . أما هاجر : وهي تدل على المفاعلة من الجانبين ، فالفاعل هنا ليس كارهاً للمكان ، ولكن المفاعلة التي حدثتْ من القوم هي التي اضطرتْه للهجرة … وهذا ما حدث في هجرة المؤمنين من مكة لأنهم لم يتركوها إلى غيرها إلاَّ بعد أن تعرضوا للاضطهاد والظُلْم ، فكأنهم بذلك شاركوا في الفعل ، فلو لم يتعرَّضوا لهم ويظلموهم لما هاجروا . ولذلك قال الحق تبارك وتعالى : { مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ … } [ النحل : 41 ] . وينطبق هذا المعنى على قول المتنبي : @ إِذَا ترحلْتَ عن قَوْمٍ وَقَدْ قَدَرُوا ألاَّ تُفارِقهم فَالرَّاحِلُون هُمُوا @@ يعني : إذا كنت في جماعة وأردْتَ الرحيل عنهم ، وفي إمكانهم أن يقدموا لك من المساعدة ما يُيسِّر لك الإقامة بينهم ولكنهم لم يفعلوا ، وتركوك ترحل مع مقدرتهم ، فالراحلون في الحقيقة هم ، لأنهم لم يساعدوك على الإقامة . كذلك كانت الحال عندما هاجر المؤمنون من مكة لأنه أيضاً لا يعقل أن يكره هؤلاء مكة وفيها البيت الحرام الذي يتمنى كل مسلم الإقامة في جواره . إذن : لم يترك المهاجرون مكة ، بل اضطروا إلى تركها وأجبروا عليه ، وطبيعي إذن أن يلجأوا إلى دار أخرى حتى تقوى شوكتهم ثم يعودون للإقامة ثانية في مكة إقامة طبيعية صحيحة . ثم إن الحق تبارك وتعالى قال : { هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ … } [ النحل : 41 ] . ونلاحظ في الحديث الشريف الذي يوضح معنى هذه الآية : " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " . فما الفرق هنا بين : هاجر في الله ، وهاجر إلى الله ؟ هاجر إلى مكان تدل على أن المكان الذي هاجر إليه أفضل من الذي تركه ، وكأن الذي هاجر منه ليس مناسباً له . أما هاجر في الله فتدل على أن الإقامة السابقة كانت أيضاً في الله … إقامتهم نفسها في مكة وتحمُّلهم الأذى والظلم والاضطهاد كانت أيضاً في الله . أما لو قالت الآية " هاجروا إلى الله " لدلَّ ذلك على أن إقامتهم الأولى لم تكن لله … إذن : معنى الآية : { هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ … } [ النحل : 41 ] . أي : أن إقامتهم كانت لله ، وهجرتهم كانت لله . ومثل هذا قوله تعالى : { وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ … } [ آل عمران : 133 ] . أي : إذا لم تكونوا في مغفرة فسارعوا إلى المغفرة ، وفي الآية الأخرى : { يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ … } [ المؤمنون : 61 ] . ذلك لأنهم كانوا في خير سابق ، وسوف يسارعون إلى خير آخر … أي : أنتم في خير ولكن سارعوا إلى خير منه . وهناك ملمح آخر في قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ … } [ النحل : 41 ] . نلاحظ أن كلمة " الذين " جمع … لكن هل هي خاصة بمَنْ نزلت فيهم الآية ؟ أم هي عامة في كُلِّ مَنْ ظُلِم في أيِّ مكان - في الله - ثم هاجر منه ؟ الحقيقة أن العبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فهي عامة في كل مَنْ انطبقت عليه هذه الظروف ، فإن كانت هذه الآية نزلت في نفر من الصحابة منهم : صُهيب ، وعمار ، وخباب ، وبلال ، إلا أنها تنتظم غيرهم مِمَّن اضطروا إلى الهجرة فِراراً بدينهم . ونعلم قصة صهيب رضي الله عنه - وكان رجلاً حداداً - لما أراد أنْ يهاجر بدينه ، عرض الأمر على قريش : والله أنا رجل كبير السِّنِّ ، إنْ كنت معكم فلن أنفعكم ، وإنْ كنت مع المسلمين فلن أضايقكم ، وعندي مال … خذوه واتركوني أهاجر ، فرضَوْا بذلك ، وأخذوا مال صُهَيب وتركوه لهجرته . ولذلك قال له صلى الله عليه وسلم : " ربح البيع يا صُهَيْب " أي : بيعة رابحة . ويقول له عمر - رضي الله عنه : " نِعْم العبدُ صُهيب ، لو لم يخَفِ الله لم يَعْصِه " . وكأن عدم عصيانه ليس خوفاً من العقاب ، بل حُبّاً في الله تعالى ، فهو سبحانه لا يستحق أنْ يُعصى . ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً … } [ النحل : 41 ] . نُبوِّئ ، مثل قوله تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ … } [ الحج : 26 ] . أي : بيَّنا له مكانه ، ونقول : باء الإنسان إلى بيته إذا رجع إليه ، فالإنسان يخرج للسعي في مناكب الأرض في زراعة أو تجارة ، ثم يأوي ويبوء إلى بيته ، إذن : باء بمعنى رجع ، أو هو مسكن الإنسان ، وما أعدَّه الله له . فإنْ كان المؤمنون سيخرجون الآن من مكة مغلوبين مضطهدين فسوف نعطيهم ونُحِلهم ونُنزِلهم منزلةً أحسن من التي كانوا فيها ، فقد كانوا مُضطهدين في مكة ، فأصبحوا آمنين في المدينة ، وإنْ كانوا تركوا بلدهم فسوف نُمهّد لهم الدنيا كلها ينتشرون فيها بمنهج الله ، ويجنُون خير الدنيا كلها ، ثم بعد ذلك نُرجعهم إلى بلدهم سادة أعزَّة بعد أن تكون مكة بلداً لله خالصة من عبادة الأوثان والأصنام … هذه هي الحسنة في الدنيا . ثم يقول تعالى : { وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ … } [ النحل : 41 ] . ما ذكرناه من حسنة الدنيا وخيرها للمؤمنين هذا من المعجِّلات للعمل ، ولكن حسنات الدنيا مهما كانت ستؤول إلى زوال ، إما أنْ تفارقها ، وإما أن تُفارقك ، وقد أنجز الله وَعْده للمؤمنين في الدنيا ، فعادوا منتصرين إلى مكة ، بل دانتْ لهم الجزيرة العربية كلها بل العالم كله ، وانساحوا في الشرق في فارس ، وفي الغرب في الرومان ، وفي نصف قرن كانوا سادة العالم أجمع . وإنْ كانت هذه هي حسنة الدنيا المعَجَّلة ، فهناك حسنة الآخرة المؤجلة : { وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ … } [ النحل : 41 ] . أي : أن ما أعدَّ لهم من نعيم الآخرة أعظم مما وجدوه في الدنيا . ولذلك كان سيدنا عمر - رضي الله عنه - إذا أعطى أحد الصحابة نصيب المهاجرين من العطاء يقول له : " بارك الله لك فيه … هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ادخر لك في الآخرة أكبر من هذا " . فهذه حسنة الدنيا . { وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ … } [ النحل : 41 ] . وساعة أنْ تسمع كلمة أكبر فاعلم أن مقابلها ليس أصغر أو صغير ، بل مقابلها كبير فتكون حسنة الدنيا التي بوَّأهم الله إياها هي الكبيرة ، لكن ما ينتظرهم في الآخرة أكبر . وكذلك قد تكون صيغةُ أفعل التفضيل أقلَّ في المدح من غير أفعل التفضيل … فمن أسماء الله الحسنى الكبير في حين أن الأكبر صفةٌ من صفاته تعالى ، وليس اسماً من أسمائه ، وفي شعار ندائنا لله نقول : الله أكبر ولا نقول : الله كبير … ذلك لأن كبير ما عداه يكون صغيراً . . إنما أكبر ، ما عداه يكون كبيراً ، فنقول في الأذان : الله أكبر لأن أمور الدنيا في حَقِّ المؤمن كبيرة من حيث هي وسيلة للآخرة . فإياك أنْ تظنَّ أن حركةَ الدنيا التي تتركها من أجل الصلاة أنها صغيرة ، بل هي كبيرة بما فيها من وسائل تُعينك على طاعة الله ، فبها تأكل وتشرب وتتقوَّى ، وبها تجمع المال لِتسُدَّ به حاجتك ، وتُؤدِّي الزكاة إلى غير ذلك ، ومن هنا كانت حركة الدنيا كبيرة ، وكانت الصلاة والوقوف بين يدي الله أكبر . ولذلك حينما قال الحق تبارك وتعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ … } [ الجمعة : 9 ] . أخرجنا بهذا النداء من عمل الدنيا وحركتها ، ثم قال : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ … } [ الجمعة : 10 ] . فأمرنا بالعودة إلى حركة الحياة لأنها الوسيلةُ للدار الآخرة ، والمزرعة التي نُعد فيها الزاد للقاء الله تعالى … إذن : الدنيا أهم من أنْ تُنسَى من حيث هي معونة للآخرة ، ولكنها أتفَهُ من أن تكونَ غاية في حَدِّ ذاتها . ثم يقول الحق سبحانه : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ النحل : 41 ] . الخطاب هنا عن مَنْ ؟ الخطاب هنا يمكن أن يتجه إلى ثلاثة أشياء : يمكن أنْ يُراد به الكافرون … ويكون المعنى : لو كانوا يعلمون عاقبة الإيمان وجزاء المؤمنين لآثروه على الكفر . ويمكن أنْ يُراد به المهاجرون … ويكون المعنى : لو كانوا يعلمون لازدادوا في عمل الخير . وأخيراً قد يُرَاد به المؤمن الذي لم يهاجر … ويكون المعنى : لو كان يعلم نتيجة الهجرة لسارع إليها . وهذه الأوجه التي يحتملها التعبير القرآني دليل على ثراء الأداء وبلاغة القرآن الكريم ، وهذا ما يسمونه تربيب الفوائد . ثم يقول الحق سبحانه : { ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ … } .