Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 48-48)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ … } [ النحل : 48 ] . المعنى : أَعَمُوا ولم يَرَوْا ولم يتدبروا فيها خلق الله ؟ { مِن شَيْءٍ … } [ النحل : 48 ] . كلمة شيء يسمونها جنس الأجناس ، و { مِن } تفيد ابتداء ما يُقال له شيء ، أي : أتفه شيء موجود ، وهذا يسمونه أدنى الأجناس … وتفيد أيضاً العموم فيكون : { مِن شَيْءٍ … } [ النحل : 48 ] . أي : كل شيء . فانظر إلى أيّ شيء في الوجود مهما كان هذا الشيء تافهاً ستجد له ظِلاً : { يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ … } [ النحل : 48 ] . يتفيأ : من فاءَ أي : رجع ، والمراد عودة الظل مرة أخرى إلى الشمس ، أو عودة الشمس إلى الظل . فلو نظرنا إلى الظل نجده على نوعين : ظل ثابت مستمر ، وظل مُتغيّر ، فالظل الثابت دائماً في الأماكن التي لا تصل إليها أشعة الشمس ، كقاع البحار وباطن الأرض ، فهذا ظِلٌّ ثابت لا تأتيه أشعة الشمس في أي وقت من الأوقات . والظلّ المتحرك الذي يُسمّى الفَيْء لأنه يعود من الظل إلى الشمس ، أو من الشمس إلى الظل ، إذن : لا يُسمَّى الظل فَيْئاً إلا إذا كان يرجع إلى ما كان عليه . ولكن … كيف يتكوّن الظل ؟ يتكوّن الظل إذا مَا استعرض الشمسَ جسم كثيف يحجب شعاع الشمس ، فيكون ظِلاً له في الناحية المقابلة للشمس ، هذا الظل له طُولان وله استواء واحد . طول عند الشروق إلى أنْ يبلغَ المغرب ، ثم يأخذ في التناقص مع ارتفاع الشمس ، فإذا ما استوتْ الشمس في السماء يصبح ظِلّ الشيء في نفسه ، وهذه حالة الاستواء ، ثم تميل الشمس إلى الغروب ، وينعكس طول الظلّ الأول من ناحية المغرب إلى ناحية المشرق . ويلفتنا الحق تبارك وتعالى إلى هذه الآية الكونية في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا ٱلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } [ الفرقان : 45 - 46 ] . ذلك لأنك لو نظرتَ إلى الظلِّ وكيف يمتدُّ ، وكيف ينقبض وينحسر لوجدتَ شيئاً عجيباً حقاً … ذلك لأنك تلاحظ الظل في الحالتين يسير سَيْراً انسيابياً . ما معنى : انسيابي ؟ هو نوع من أنواع الحركة ، فالحركة إما حركة انسيابية ، أو حركة عن توالي سكونات بين الحركات . وهذه الأخيرة نلاحظها في حركة عقارب الساعة ، وهي أوضح في عقرب الثواني منها في عقرب الدقائق ، ولا تكاد تشعر بها في عقرب الساعات … فلو لاحظت عقرب الثواني لوجدتَه يسير عن طريق قفزات منتظمة ، تكون حركة فسكوناً فحركة ، وهكذا … ومعنى ذلك أنه يجمع الحركة في حال سكونه ، ثم ينطلق بها ، وبذلك تمرُّ عليه لحظة لم يكن مُتحركاً فيها ، وهذا ما نسميه بالحركة القفزية … هذه الحركة لا تستطيع رَصْدها في عقرب الساعات لأن القفزة فيه دقيقة لدرجة أن العين المجردة تعجز عن رَصْدها وملاحظتها ، هذه هي الحركة القفزية . أما الحركة الانسيابية ، فتعني أن كل جزء من الزمن فيه جزء من الحركة … أي : حركة مستمرة ومُوزّعة بانتظام على الزمن . ونضرب لذلك مثلاً بنمو الطفل … الطفل الوليد ينمو باستمرار ، لكن أمه لملازمتها له لا تلاحظ هذا النمو لأن نظرها عليه دائماً … فكيف تكون حركة النمو في الطفل ؟ هل حركة قفزية يتجمع فيها نمو الطفل كل أسبوع أو كل شهر مثلاً ، ثم ينمو طَفْرة واحدة ؟ لو كان نموه هكذا لَلاَحظنا نمو الطفل ، لكنه ليس كذلك ، بل ينمو بحركة انسيابية تُوزّع المِلِّي الواحد من النمو على طول الزمن . فلا نكاد نشعر بنموه . وهكذا حركة الشمس حركة انسيابية ، بحيث تُوزع جزئيات الحركة على جُزئيات الزمن ، فالشمس ليست مركونة إلى ميكانيكا تتحرك عن التروس كالساعة مثلاً ، لا … بل مركونة إلى أمر الله ، موصولة بكُنْ الدائمة . وكأن الحق تبارك وتعالى يريد أن يلِفتَ خَلْقه إلى ظاهرة كونية في الوجود مُحسّة ، يدركها كلٌّ مِنّا في ذاته ، وفيما يرى من المرائي ، ومن هذه المظاهر ظاهرة الظَلّ التي يعجز الإنسان عن إدراك حركته . وفي آية أخرى يقول الحق تبارك وتعالى : { وَظِلالُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } [ الرعد : 15 ] . فالحق سبحانه يريد أن يُعمم الفكرة التسبيحية في الكون كله ، كما قال تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ … } [ الإسراء : 44 ] . فكل ما يُطلَق عليه شيء فهو يُسبِّح مهما كان صغيراً . وقوله تعالى : { يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ … } [ النحل : 48 ] . لنا هنا وقفة مع الأداء القرآني ، حيث أتى باليمين مُفْرداً ، في حين أتى بالشمائل على صورة الجمع ذلك لأن الحق تبارك وتعالى لما قال : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ … } [ النحل : 48 ] . أتى بأقلّ ما يُتصوَّر من مخلوقاته سبحانه { مِن شَيْءٍ } وهو مفرد ، ثم قال سبحانه : { ظِلاَلُهُ … } [ النحل : 48 ] . بصيغة الجمع . أي : مجموع هذه الأشياء ، فالإنسان لا يتفيأ ظِلّ شيء واحد ، لا … بل ظِلّ أشياء متعددة . و { مِن } هنا أفادت العموم : { مِن شَيْءٍ … } [ النحل : 48 ] . أي : كل شيء . فليناسب المفرد جاء باليمين ، وليناسب الجمع جاء بالشمائل . ثم يقول تعالى : { سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } [ النحل : 48 ] . فما العلاقة بين حركة الظلّ وبين السجود ؟ معنى : سُجّداً أي : خضوعاً لله ، وكأن حركة الظل وامتداده على امتداد الزمن دليلٌ على أنه موصول بالمحرك الأعلى له ، والقائل الأعلى لـ " كُنْ " ، والظل آية من آياته سبحانه مُسخّرة له ساجدة خاضعة لقوله : كُنْ فيكون . وقلنا : إن هناك فرقاً بين الشيء تُعِده إعداداً كَوْنياً ، والشيء تُعِده إعداداً قدرياً … فصانع القنبلة الزمنية يُعِدُّها لأنْ تنفجرَ في الزمن الذي يريده ، وليس الأمر كذلك في إعداد الكون . الكون أعدّه الله إعداداً قدرياً قائماً على قوله كُنْ ، وفي انتظار لهذا الأمر الإلهي باستمرار كن فيكون . وهكذا … فليست المسألة مضبوطة ميكانيكاً ، لا … بل مضبوطة قَدرياً . لذلك يحلو لبعض الناس أن يقول : باقٍ للشمس كذا من السنين ثم ينتهي ضوؤها ، ويُرتّب على هذا الحكم أشياء أخرى … نقول : لا … ليس الأمر كذلك … فالشمس خاضعة للإعداد القدريّ منضبطةٌ به ومنتظرة لـ " كُنْ " التي يُصغِي لها الكون كله ولذلك يقول تعالى : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [ الرحمن : 29 ] . هكذا بيَّنت الآية الكريمة أن كل ما يُقال له " شيء " يسجد لله عز وجل ، وكلمة " شيء " جاءت مُفْردة دالّة على العموم … وقد عرفنا السجود فيما كلَّفنا الله به من ركن في الصلاة ، وهو مُنْتَهى الخضوع ، خضوع الذات من العابد للمعبود ، فنحن نخضع واقفين ، ونخضع راكعين ، ونخضع قاعدين ، ولكن أتمَّ الخضوع يكون بأنْ نسجدَ لله … ولماذا كان أتمَّ الخضوع أن نسجدَ لله ؟ نقول : لأن الإنسان له ذات عامة ، وفي هذا الذات سيد للذات ، بحيث إذا أُطلِق انصرف إلى الذات ، والمراد به الوجه لذلك حينما يعبّر الحق تبارك وتعالى عن فَنَاء الوجود يقول : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ … } [ القصص : 88 ] . وكذلك في قوله : { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ * وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ } [ الليل : 20 - 21 ] . فيُطلَق الوجه ويُراد به الذات ، فإذا ما سجد الوجه لله تعالى دلَّ ذلك على خضوع الذات كلها لأن أشرف ما في الإنسان وجهه ، فإذا ما ألصقه بالأرض فقد جاء بمنتهى الخضوع بكل ذاته للمعبود عز وجل . كما دَلَّتْ الآية على أن الظل أيضاً يسجد لربه وخالقه سبحانه ، والظلال قد تكون لجمادات كالشجر مثلاً ، أو بناية أو جبل ، وهذه الأشياء الثابتة يكون ظِلّها أيضاً ثابتاً لا يتحرك ، أما ظِلّ الإنسان أو الحيوان فهو ظل متحرك ، وقد ضرب لنا الحق تبارك وتعالى مثلاً في الخضوع التام بالظلال لأن ظل كل شيء لا يفارق الأرض أبداً ، وهذا مثال للخضوع الكامل . ثم يرتفع الحق تبارك وتعالى بمسألة السجود من الجمادات في الظلال في قوله : { وَظِلالُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } [ الرعد : 15 ] . يعني الذوات تسجد ، وكذلك الظلال تسجد ولذلك يتعجب بعض العارفين من الكافر … يقول : أيها الكافر ظِلُّك ساجد وأنت جاحد … جاء هذا الترقِّي في قوله تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ … } .