Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 47-47)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

التخوُّف : هو الفزع من شيء لم يحدث بعد ، فيذهب فيه الخيال مذاهبَ شتَّى ، ويتوقع الإنسان ألواناً متعددة من الشر ، في حين أن الواقع يحدث على وجه واحد . هَبْ أنك في انتظار حبيب تأخَّر عن موعد وصوله ، فيذهب بك الخيال والاحتمال إلى أمور كثيرة … يا تُرى حدث كذا أو حدث كذا ، وكل خيال من هذه الخيالات له أثر ولذعة في النفس ، وبذلك تكثر المخاوف ، أما إن انتظرتَ لتعرفَ الواقع فإنْ كان هناك فزع كان مرة واحدة . ولذلك يقولون في الأمثال : نزول البلا ولا انتظاره ذلك لأنه إنْ نزل سينزل بلون واحد ، أما انتظاره فيُشيع في النفس ألواناً متعددة من الفزع والخوف … إذن : التخُّوف أشدُّ وأعظم من وقوع الحَدث نفسه . وكان هذا الفزع يعتري الكفار إذا ما عَلِموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية من السَّرايا ، فيتوقع كل جماعة منهم أنها تقصدهم ، وبذلك يُشيع الله الفزع في نفوسهم جميعاً ، في حين أنها خرجتْ لناحية معينة . وبعض المفسرين قال : التخوُّف يعني التنقُّص بأنْ ينقص الله من رُقْعة الكفر بدخول القبائل في الإسلام قبيلةً بعد أخرى ، فكلُّ واحدة منها تنقص من رقعة الكفر … كما جاء في قوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ … } [ البقرة : 155 ] . ثم يقول الحق تبارك وتعالى في تذييل هذه الآية : { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 47 ] . وهل هذا التذييل مناسب للآية وما قبلها من التهديد والوعيد ؟ فالعقل يقول : إن التذييل المناسب لها : إن ربكم لشديد العقاب مثلاً . لكن يجب هنا أنْ نعلمَ أن هذا هو عطاء الربوبية الذي يشمل العباد جميعاً مؤمنهم وكافرهم ، فالله تعالى استدعى الجميع للدنيا ، وتكفَّل للجميع بما يحفظ حياتهم من شمس وهواء وأرض وسماء ، لم تُخلَق هذه الأشياء لواحد دون الآخر ، وقد قال تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] . وكأن في الآية لَوْناً من ألوان رحمته سبحانه بخَلْقه وحِرْصه سبحانه على نجاتهم لأنه يُنبِّههم إلى ما يمكن أن يحدث لَهم إذا أصرُّوا على كفرهم ، ويُبصِّرهم بعاقبة كفرهم ، والتبصرة عِظَة ، والعِظَة رأفة بهم ورحمة حتى لا ينالهم هذا التهديد وهذا الوعيد . ومثال هذا التذييل كثير في سورة الرحمن ، يقول الحق تبارك وتعالى : { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 17 - 18 ] . فهذه نعمة ناسبت قوله تعالى : { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 18 ] . وكذلك في قوله تعالى : { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [ الرحمن : 19 - 20 ] . فهذه نعمة من نعم الله ناسبت تذييل الآية : { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 21 ] . أما في قوله تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 26 - 28 ] . فما النعمة في { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } ؟ هل الموت نعمة ؟ ! نعم ، يكون الموت نعمة من نِعَم الله على عباده لأنه يقول للمحسن : سيأتي الموت لتلقَي جزاء إحسانك وثواب عملك ، ويقول أيضاً للكافر : انتبه واحذر … الموت قادم ، كأنه سبحانه يُوقِظ الكفار ويَعِظهم لينتهوا عما هم فيه … أليست هذه نعمة من نعم الله ورحمة منه سبحانه بعباده ؟ وكذلك انظر إلى قول الحق تبارك وتعالى : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 35 - 36 ] . فأيّ نعمة في : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ … } [ الرحمن : 35 ] . أيُّ نعمة في هذا العذاب ؟ نعم المتدبِّر لهذه الآية يجد فيها نعمة عظيمة لأن فيها تهديداً ووعيداً بالعذاب إذا استمروا على ما هُم فيه من الكفر … ففي طيَّاتها تحذير وحِرْص على نجاتهم كما تتوعد ولدك : إذا أهملتَ دروسك ستفشل وأفعل بك كذا وكذا . وأنت ما قلت ذلك إلا لحِرصك على نجاحه وفلاحه . إذن : فتذييل الآية بقوله : { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 47 ] . تذييل مناسب لما قبلها من التهديد والوعيد ، وفيها بيان لرحمة الله التي يدعو إليها كلاً من المؤمن والكافر . ثم يقول الحق سبحانه : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ … } .