Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 50-50)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ما هو الخوف ؟ الخوف هو الفزع والوجَلَ ، والخوف والفزع والوجل لا يكون إلا من ترقب شيء من أعلى منك لا تقدر أنت على رَفْعه ، ولو أمكنك رَفْعه لما كان هناك داعٍٍ للخوف منه لذلك فالأمور التي تدخل في مقدوراتك لا تخاف منها ، تقول : إنْ حصل كذا أفعل كذا … الخ : وإذا كان الملائكة الكرام : { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] . فما داعي الخوف إذن ؟ نقول : إن الخوف قد يكون من تقصير حدث منك تخاف عاقبته ، وقد يكون الخوف عن مهابة للمخُوف وإجلاله وتعظيمه دون ذنب ودون تقصير ، ولذلك نجد الشاعر العربي يقول في تبرير هذا الخوف : @ أَهَابُكَ إِجْلاَلاً ومَا بِكَ قُدْرة عليَّ ولكِنْ مِلْءُ عَيْنٍ حَبِيبُها @@ إذن : مرّة يأتي الخوف لتوقُّع أذى لتقصير منك ، ومرَّة يأتي لمجرد المهابة والإجلال والتعظيم . وقوله تعالى : { مِّن فَوْقِهِمْ … } [ النحل : 50 ] . ما المراد بالفوْقية هنا ؟ نحن نعرف أن الجهات ستّ : فوق ، وتحت ، ويمين ، وشمال ، وأمام ، وخلف … بقيتْ جهة الفَوقْية لتكون هي المسيطرة ولذلك حتى في بناء الحصون يُشيّدونها على الأماكن العالية لتتحكم بعلُوّها في متابعة جميع الجهات . إذن : فالفوقية هي محلّ العُلو ، وهذه الفوقية قد تكون فوقية مكان ، أو فوقية مكانة . فالذي يقول : إنها فوقية مكان ، يرى أن الله في السماء ، بدليل أن الجارية التي سُئِلت : أين الله ؟ أشارتْ إلى السماء ، وقالت : في السماء . فأشارت إلى جهة العُلُو لأنه لا يصح أن نقول : إن الله تحت ، فالله سبحانه مُنزَّه عن المكان ، وما نُزِّه عن المكان نُزِّه عن الزمان ، فالله عز وجل مُنزَّه عن أنْ تُحيّزه ، لا بمكان ولا بزمان لأن المكان والزمان به خُلِقاً … فمَن الذي خلق الزمان والمكان ؟ إذن : ما داما به خُلِقاً فهو سبحانه مُنزَّه عن الزمان والمكان . وهم قالوا بأن الفوقية هنا فوقية حقيقية … فوقية مكان ، أي : أنه تعالى أعلى مِنّا … ونقول لمن يقول بهذه الفوقية : الله أَعْلى مِنّا … من أيّ ناحية ؟ من هذه أم من هذه ؟ إذن : الفوقية هنا فوقية مكانة ، بدليل أننا نرى الحرس الذين يحرسون القصور ويحرسون الحصون يكون الحارس أعلى من المحروس … فوقه ، فهو فوقه مكاناً ، إنما هل هو فوقه مكانة ؟ بالطبع لا . وقوله تعالى : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ النحل : 50 ] . وهذه هي الطاعة ، وهي أن تفعلَ ما أُمِرتْ به ، وأنْ تجتنبَ ما نُهيتَ عنه ، ولكن الآية هنا ذكرت جانباً واحداً من الطاعة ، وهو : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ النحل : 50 ] . ولم تقُلْ الآية مثلاً : ويجتنبون ما ينهوْنَ عنه ، لماذا ؟ … نقول : لأن في الآية ما يسمونه بالتلازم المنطقي ، والمراد بالتلازم المنطقي أن كلَّ نهي عن شيء فيه أمر بما يقابله ، فكل نهي يؤول إلى أمر بمقابله . فقوله سبحانه : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ النحل : 50 ] . تستلزم منطقياً " ويجتنبون ما يُنهَوْن عنه " وكأن الآية جمعت الجانبين . والحق سبحانه وتعالى خلق الملائكة لا عمل لهم إلا أنهم هُيِّموا في ذات الله ، ومنهم ملائكة مُوكّلون بالخلق ، وهم : { فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } [ النازعات : 5 ] . ويقول تعالى : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ … } [ الرعد : 11 ] . ومنهم : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ } [ الانفطار : 10 - 11 ] . إذن : فهناك ملائكة لها علاقة بِنَا ، وهم الذين أمرهم الحق سبحانه أن يسجدوا لآدم حينما خلقه الله ، وصوَّره بيده ، ونفخ فيه من رُوحه … وكأن الله سبحانه يقول لهم : هذا هو الإنسان الذي ستكونون في خدمته ، فالسجود له بأمر الله إعلانٌ بأنهم يحفظونه من أمر الله ، ويكتبون له كذا ، ويعملون له كذا ، ويُدبِّرون له الأمور … الخ . أما الملائكة الذين لا علاقة لهم بالإنسان ، ولا يدرون به ، ولا يعرفون عنه شيئاً ، هؤلاء المعْنِيون في قوله سبحانه لإبليس : { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ } [ ص : 75 ] . أي : أستكبرتَ أنْ تسجدَ ؟ أم كنتَ من الصِّنْف الملَكي العالي ؟ … هذا الصنف من الملائكة ليس لهم علاقة بالإنسان ، وكُلُّ مهمتهم التسبيح والذكْر ، وهم المعنيون بقوله تعالى : { يُسَبِّحُونَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [ الأنبياء : 20 ] . كلُّ شيء - إذن - في الوجود خاضع لمرادات الحق سبحانه منه ، إلا ما استثنى الله فيه الإنسان بالاختيار ، فالله سبحانه لم يقهر أحداً ، لا الإنسان ولا الكون الذي يعيش فيه ، فقد عرض الله سبحانه الأمانة على السمٰوات والأرض والجبال ، فأبيْنَ أن يحملنها وأشفقْنَ منها … وكأنها قالت : لا نريد أن نكون مختارين ، بل نريد أن نكون مُسخَّرين ، ولا دَخْلَ لنا في موضوع الأمانة والتكليف ! ! لماذا - إذن - يأبى الكون بسمائه وأرضه تحمُّل هذه المسئولية ؟ نقول : لأن هناك فَرْقاً بين تقبُّل الشيء وقت تحمُّله ، والقدرة على الشيء وقت أدائه … هناك فَرْق … عندنا تحمُّل وعندنا أداء … وقد سبق أنْ ضربنا مثلاً لتحمُّل الأمانة وقُلْنا : هَبْ أن إنساناً أراد أن يُودع عندك مبلغاً من المال مخافة تبديده لتحفظه له لحين الحاجة إليه ، وأنت في هذا الوقت قادر على التحمل وتنوي أداء أمانته إليه عند طلبها وذمَّتك قوية ، ونيتك صادقة . وهذا وقت تحمُّل الأمانة ، فإذا ما جاء وقت الأداء ، فربما تضطرك الظروف إلى إنفاق هذا المال ، أو يعرض لك عارضٌ يمنعك من الأداء أو تتغيّر ذمتك . إذن : وقت الأداء شيء آخر . لذلك ، فالذي يريد أنْ يُبرىء ذمته لا يضمن وقت الأداء ويمتنع عن تحمُّل الأمانة ويقول لنفسه : لا ، إن كنت أضمن نفسي وقت التحمل فلا أضمن نفسي وقت الأداء . هذا مثال لما حدثَ من السماء والأرض والجبال حينما رفضت تحمُّل الأمانة ، ذلك لأنها تُقدّر مسئوليتها وثقلها وعدم ضمان القيام بحقها ، لذلك رفضت تحمُّلها من بداية الأمر . وكذلك يجب أن يكون الإنسان عاقلاً عند تحمُّل الأمانات ولذلك يقول تعالى : { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] . ما الذي جهله الإنسان ؟ جهل تقدير حالة وقت أداء الأمانة ، فظلم نفسه ، ولو أنه خرج من باب الجمال كما يقولون لَقالَ : يا ربِّ اجعلني مثل السماء والأرض والجبال ، وما تُجريه عليَّ ، فأنا طَوْع أمرك . ولذلك ، فمن عباد الله مَنْ قَبِل الاختيار وتحمَّل التكليف ، ولكنه خرج عن اختياره ومراده لمراد ربِّه وخالقه ، فقال : يا رب أنت خلقْتَ فينا اختياراً ، ونحن به قادرون أن نفعل أو لا نفعل ، ولكنَّا تنازلنا عن اختيارنا لاختيارك ، وعن مرادنا لمرادك ، ونحن طَوْع أمرك … هؤلاء هم عباد الله الذين استحقوا هذه النسبة إليه سبحانه وتعالى . إذن : هناك فَرْق بين مَنْ يفعل اختياراً مع قدرته على ألاَّ يفعل ، وبين مَنْ يفعل بالقهر والتسخير … فالأول مع أنه قادر ألاَّ يفعل ، فقد غلَّب مُراد ربِّه في التكليف على مراد نفسه في الاختيار . ثم ينتقل الحق - تبارك وتعالى - إلى قمة القضايا العقدية بالنسبة للإنسان ، فيقول تعالى : { وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ … } .