Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 51-51)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقد جاء النهي في الآية نتيجة خروج الإنسان عن مُراد ربِّه سبحانه ، فالعجيب أن البشر والجن أيضاً - يعني الثقلين - هم المختارون في الكون كله ، اختيار في أشياء وقَهْر في أشياء أخرى … ومع ذلك لم يشذّ من خَلْق الله غيرهما . فالسمٰوات والأرض والجبال كان لها اختيار ، وقد اختارت التسخير ، وانتهت المسألة في بداية الأمر ، ومع ذلك فهي مُسخَّرة وتُؤدِّي مهمتها لخدمة الإنسان ، فالشمس لم تعترض يوماً ولم ترفض … فهي تشرق على المؤمن كما تشرق على الكافر … وكذلك الهواء والأرض والدابة الحلوب ، وكُلُّ ما في كون الله مُسخَّر للجميع … إذن : كل هذه الأشياء لها مهمة ، وتؤدي مُهمتها على أكمل وجه . ولذلك يقول تعالى في حقِّ هذه الأشياء : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ … } [ الحج : 18 ] هكذا بالإجماع ، لا يتخلّف منها شيء عن مُراد ربه . فما الحال في الإنسان ؟ يقول تعالى : { وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ … } [ الحج : 18 ] . ولم يَقُلْ : والناس . ثم قال : { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ … } [ الحج : 18 ] . هذا هو الحال في الإنسان المكرّم الذي اختاره الله وترك له الاختيار … إنما كل الأجناس مُؤدّيه واجبها لأنها أخذتْ حظّها من الاختيار الأول ، فاختارت أن تكون مُسخَّرة ، وأن تكون مقهورة . فالإنسان … واحد يقول : لا إلهَ في الوجود … العالم خُلِق هكذا بطبيعته ، وآخر يقول : بل هناك آلهة متعددة لأن العالم به مصالح كثيرة وأشياء لا ينهض بها إله واحد … يعني : إله للسماء ، وإله للأرض ، وإله للشمس … الخ . إذن : هذا رأي في العالم أشياء كثيرة بحيث لا ينهض بها في نظره إله واحد ، ونقول له : أنت أخذتَ قدرة الإله من قدرة الفردية فيك … لا … خُذها من قدرة من : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ … } [ الشورى : 11 ] . لأن القدرة الإلهية لا تعالج الأشياء كما تفعل أنت ، وتحتاج إلى مجهود وعمل … بل في حقّه تعالى يتم هذا كله بكلمة كُنْ … كُنْ كذا وانتهت المسألة . ونعجب من تناقض هؤلاء ، واحد يقول : الكون خُلِق هكذا لحاله دون إله . والآخر يقول : بل له آلهة متعددة … نقول لهم : أنتم متناقضون ، فتعالَوْا إلى دين الله ، وإلى الوسطية التي تقول بإله واحد ، لا تنفي الألوهية ولا تثبت التعددية . فإنْ كنتَ تظنُّ أن دولابَ الكون يقتضي أجهزة كثيرة لإدارته ، فاعلم أن الله تعالى لا يباشر تدبير أمر الكون بعلاج … يفعل هذه ويفعل هذه ، كما يُزاول البشر أعمالهم ، بل يفعلها بـ " كُنْ " ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي : " يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وحيَّكم وميتكم ، ورطبكم ويابسكم اجتمعوا في صعيد واحد ، فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته ، فأعطيت كل سائل منكم ما سأل ما نقص ذلك من مُلْكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه ، ذلك بأنِّي جواد ماجد ، افعل ما أريد ، عطائي كلام ، وعذابي كلام ، إنما أمري بشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون " . فيا مَنْ تُشفْق على الإله الواحد أن يتعبَ من إدارته للكون بشتى نواحيه ، ارتفع بمستوى الألوهية عن أمثال البشر لأن الله تعالى لا يباشر سلطانه علاجاً في الكون ، وإنما يباشره بكلمة " كُنْ " . إذن : إله واحد يكفي ، وما دُمْنا سلَّمنا بإله واحد ، فإياك أن تقول بتعدُّد الآلهة … وإذا كان الحق تبارك وتعالى نفى إلهين اثنين ، فنَفْي ما هو أكثر من ذلك أَوْلَى … واثنان أقل صُور التعدد . ومعنى { إِلـٰهَيْنِ } أي : معبودين ، فيكون لهما أوامر ونواه ، والأوامر والنواهي تحتاج إلى طاعة ، والكون يحتاج إلى تدبير ، فأيُّ الإلهين يقوم بتدبير أمور الكون ؟ أم أنه يحتاج إلى مُسَاعد ؟ إنْ كان يحتاج إلى مساعد فهذا نقْص فيه ، ولا يصلح أن يكون إلهاً . وكذلك إنْ تخصَّص كُلٌّ منهما في عمل ما ، هذا لكذا وهذا لكذا ، فقد أصبح أحدهما عاجزاً فيما يقوم به الآخر … وأي ناحية إذن من نواحي الحياة تكون هي المسيطرة ؟ ومعلوم أن نواحي الحياة مشتركة ومتشابكة . ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ … } [ المؤمنون : 91 ] . وقال : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا … } [ الأنبياء : 22 ] . فكيف الحال إذا أراد الأول شيئاً ، وأراد الآخر ألاَّ يكون هذا الشيء ؟ فإنْ كان الشيء كان عجزاً في الثاني ، وإن لم يكُن كان عجزاً في الأول … إذن : فقوة أحدهما عَجْز في الآخر . ونلحظ في قوله تعالى : { وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ … } [ النحل : 51 ] . عظة بليغة ، كأنه سبحانه حينما دعانا إلى توحيده يقول لنا : أريحوا أنفسكم بالتوحيد ، وقد أوضح الحق سبحانه وتعالى هذه الراحة في قوله : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 29 ] . يعني رجل خُلَّص لسيد واحد ، ورجل أسياده كثيرون ، وهم شركاء مختلفون ، فإنْ أرضى هذا أغضب ذاك ، وإن احتاجه أحدهما تنازعه الآخر . فهو دائماً مُتْعبٌ مُثقَلٌ ، أما المملوك لسيد واحد فلا يخفي ما فيه من راحة . ففي أمره سبحانه بتوحيده راحةٌ لنا ، وكأنه سبحانه يقول : لكم وِجْهة واحدة تكفيكم كُلَّ الجهات ، وتضمن لكم أن الرضا واحد ، وأن البُغْض واحد . إذن : فطلبُه سبحانه راحةٌ لنا لذلك قبل أن يطلبها مِنّا شهد بها لذاته تعالى ، فقال : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ … } [ آل عمران : 18 ] . فلو قال معترض : كيف يشهد لذاته ؟ نقول : نعم ، يشهد لذاته سبحانه لأنه لا أحدَ غيره … لا أحد معه ، فشهادة الذات للذات هنا شيء طبيعي … وكأنه سبحانه يقول : لا أحدَ غيري ، وإنْ كان هناك إله غيري فَلْيُرني نفسه ، وليُفصِح عن وجوده . أنا الله خلقت الكون وأخذته وفعلتُ كذا وكذا ، فإما أنْ أكون صادقاً فيما قلت وتنتهي المسألة ، وإما أنْ أكون غير صادق ، وهناك إله آخر هو الذي خلق … فأين هو ؟ لماذا لا يعارضني ؟ وهذا لم يحدث ولم ينازع الله في خَلْقه أحد ، وحين تأتي الدعوى بلا معاند ولا معارض تَسْلَم لصاحبها . فإنْ قال قائل : لعل الآلهة الأخرى لم تَدْرِ بأن أحداً قد أخذ منهم الألوهية ، فإنْ كان الأمر كذلك فهم لا يصلُحون للألوهية لعدم درايتهم ، وإنْ دَرَوْا ولم يعارضوا فهُمْ جُبناء لا يستحقون هذه المكانة . وبشهادته سبحانه لذاته بأنه لا إله إلا هو أقبل على خَلْق الخَلْق لأنه ما دام يعرف أنه لا إله غيره ، فإذا قال : " كن " فهو واثق أنه سيكون . ولذلك ساعة يحكم الله حُكْماً غيبياً يقول : أنا حكمت هذا الحكم مع أنكم مختارون في أنْ تفعلوا أو لا تفعلوا ، ولكني حكمتُ بأنكم لا تفعلون ، وما دُمْتُ حكمت بأنكم لا تفعلون ولكم قدرة أن تفعلوا ، ولكن ما فعلتم ، فهذا دليل على أنه لا إله غيري يُعينكم على أنْ تفعلوا . ثم شهدتْ الملائكة على شهادة الذات ، وشهد أولو العلم شهادةَ الاستدلال ، كما قال تعالى : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ … } [ آل عمران : 18 ] . لنا هنا وَقْفة مع قوله تعالى : { إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ … } [ النحل : 51 ] . فعندنا العدد ، وعندنا المعدود ، فإذا قُلْنا مثلاً : قابلت ثلاثة رجال ، فكلمة " ثلاثة " دلتْ على العدد ، وكلمة " رجال " دلَّتْ على جنس المعدود ، وهكذا في جميع الأعداد ما عدا المفرد والمثنى ، فلفظ كل منهما يدل على العدد والمعدود معاً . كما لو قلت : إله . فقد دلَّتْ على الوحدة ، ودلتْ على الجنس ، وكذلك " إلهين " دلَّتْ على المثنى وعلى جنس المعدود . ولذلك كان يكفي في الآية الكريمة أن يقول تعالى : لا تتخذوا إلهين لأنها دلَّتْ على العدد وعلى المعدود معاً ، ولكن الحق تبارك وتعالى أراد هذا تأكيداً للأمر العقديّ لأهميته . ومن أساليب العرب إذا أحبُّوا تأكيد الكلام أن يأتوا بعده بالمراد . فيقولون : فلان قسيم وسيم ، وفلان حَسن بَسَن ، وفلان شيطان ليطان ، يريدون تأكيد الصفة … وكذلك في قوله : { إِلـٰهَيْنِ } فقط تثبت الألوهية ، ولتأكيد هذه القضية العقدية لأنها أهمّ القضايا بالنسبة للإنسان ، وهي قضية القمة ، فقال تعالى : { إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ … } [ النحل : 51 ] . وكذلك أيضاً في قوله : { إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ . . } [ النحل : 51 ] . فجاء بقوله تعالى { وَاحِدٌ } لتأكيد وحدانية الله تعالى . وفي الآية مَلْحظ آخر يجب تأمّله ، وهو أن الكلام هنا في حالة الغيبة : { إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ … } [ النحل : 51 ] . فكان القياس في اللغة هنا أن يقول : " فإياه فارهبون " . ولكن وراء تحويل السياق من الغيبة إلى المجابهة للمتكلم قال : { فَإيَّايَ فَٱرْهَبُونِ } [ النحل : 51 ] . وهذا وراءه حكمة ، ومَلْحظ بلاغي ، فبعد أنْ أكَّد الألوهية بقوله تعالى : { إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ … } [ النحل : 51 ] . صَحَّ أنْ يُجابِهَهم بذاته لأن المسألة ما دامتْ مسألة رَهْبة ، فالرهبة من المتكلم خير من الرهبة من الغائب … وكأن السياق يقول : ها هو سبحانه أمامك ، وهذا أَدْعى للرهْبة . وكذلك في فاتحة الكتاب نقرأ : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ * مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [ الفاتحة : 2 - 4 ] . ولم يَقُلْ : إياه نعبد ، متابعة للغيبة ، بل تحوَّل إلى ضمير الخطاب فقال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] . ذلك لأن العبد بعد أن استحضر صفة الجلال والعظمة أصبح أَهْلاً للمواجهة والخطاب المباشر مع الله عز وجل . فقوله : { فَإيَّايَ فَٱرْهَبُونِ } [ النحل : 51 ] . بعد ما استحضر العبد عظمة ربه ، وأقرّ له بالوحدانية وعَلِم أنه إله واحد ، وليس إلهين . واحد يقول : نُعذّبه . والآخر يقول : لا . ليس الأمر كذلك ، بل إله واحد بيده أنْ يُعذّب ، وبيده أنْ يعفو ، فناسب السياق هنا أنْ يُواجههم فيقول : { فَإيَّايَ فَٱرْهَبُونِ } [ النحل : 51 ] . ثم يقول تعالى : { وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } .