Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 59-59)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ … } [ النحل : 59 ] . أي : يتخفَّى منهم مخافَة أنْ يُقال : أنجب بنتاً . { مِن سُوۤءِ مَا بُشِّرَ بِهِ … } [ النحل : 59 ] . نلاحظ إعادة البشارة في هذه الآية أيضاً ، وكأنه سبحانه وتعالى يُحنِّن قلبه عليها ، ويدعوه إلى الرِّفْق بها . فهو متردد لا يدري ماذا يفعل لذلك يقول تعالى : { أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي ٱلتُّرَابِ … } [ النحل : 59 ] . أي : ماذا يفعل فيما وُلِد له . أيحتفظ به على هُونٍ - أي : هوان ومذلة - أم يدسُّه في التراب - أي : يدفنها فيه حية ؟ { أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ النحل : 59 ] . أي : ساء ما يحكمون في الحالتين . حالة الإمساك على هُون ومذلَّة ، أو حالة دَسّها في التراب ، فكلاهما إساءة . وكان بعض هؤلاء إذا وُلدتْ له بنت كرهها ، فإن أمسكها أمسكها على حال كونها ذليلةً عنده ، مُحتقرة مُهَانة ، وهي مسكينة لا ذنبَ لها . ولذلك ، فإن المرأة العربية التي عاصرتْ هذه الأحداث فطِنَتْ إلى ما لم نعرفه نحن إلا قريباً ، حيث اكتشف العالم الحديث أن أمر إنجاب الولد أو البنت راجع إلى الرجل وليس إلى المرأة … وكان أبو حمزة كثيراً ما يترك زوجته ويغضب منها ، لأنها لا تلد إلا البنات … فماذا قالت هذه المرأة العربية التي هجرها زوجها ؟ قالت : @ مَا لأبي حمزةَ لاَ يأتِينَا غَضْـبانَ ألاَّ نَلِدَ البَنِـينا تَاللهِ مَا ذَلكَ فِـي أَيْدينا فَنَحنُ كَالأَرْضِ لغارسينا نُعطِي لَهُم مِثْل الذِي أُعْطِينَا @@ والحق سبحانه وتعالى حينما يريد توازناً في الكون يصنع هذا التوازن من خلال مقتضيات النفس البشرية ، ومن مقتضياتها أن يكون للإنسان جاهٌ ، وأن يكون له عِزّ ، لكن الإنسان يخطىء في تكوين هذا الجاه والعِزّ ، فيظن أنه قادر على صُنْع ما يريد بأسبابه وحدها . إنما لو علم أن تكوين الجاه والعِزّ بشيء فوق أسبابه هو ، بشيء مخلوق لله تعالى ، بقدر مخلوق لله تعالى ، لو علم هذه الحقيقة لجاء المسألة من بابها . ذلك لأن العزة ليست بما تُنجِب … العزة هنا لله وللرسول وللمؤمنين ، اعتزّ هنا بُعصْبة الإيمان ، اعتز بأنك في بيئة مؤمنة متكافلة ، إذا أصابك فيها ضَيْم فزِع إليك الجميع . ولا تعتزّ بالأنسال والأنجال ، فقد يأتي الولد عاقّاً لا يُسعِف أبويْه في شدة ، ولا يعينهما في حاجة ذلك لأنك لجأتَ إلى عَصَبية الدم وعَصَبيَّة الدم قد تتخلّف ، أما عَصبِيّة العقيدة وعَصَبية الإيمان والدين فلا . ولنأخذ على ذلك مثالاً … ما حدث بين الأنصار والمهاجرين من تكافل وتعاون فاق كُل ما يتصوره البشر ، ولم يكُنْ بينهم سوى رابطة العقيدة وعصبية الإيمان … ماذا حدث بين هؤلاء الأفذاذ ؟ وجدنا أن العصبية الإيمانية جعلت الرجل يُضحِّي بأنفَس شيء يضِنُّ به على الغير . . نتصور في هذا الموقف أن يعود الأنصار بفضل ما عندهم من نعم على إخوانهم المهاجرين ، فَمنْ كانت عنده ركوبة أو منزل مثلاً يقول لأخيه المهاجر : تفضل اركب هذه الركوبة ، أو اجلس في هذا المنزل … هذا كله أمر طبيعي . أما نعيم المرأة ، فقد طُبِع في النفس البشرية أن الإنسان لا يحب أن تتعدَّى نعمته فيها إلى غيره … لكن انظر إلى الإيمان ، ماذا صنع بالنفوس ؟ … فقد كان الأنصاري يقول للمهاجر : انظر لزوجاتي ، أيّهن أعجبتْك أُطلِّقها لتتزوجها أنت ، وما حمله على ذلك ليس عصبية الدم أو عَصبيّة الجنس ، بل عَصبيّة اليقين والإيمان . ولذلك تنتفي جميع العصبيات في قصة نوح - عليه السلام - وولده الكافر ، حينما ناداه نوح - عليه السلام - : { يٰبُنَيَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ … } [ هود : 42 - 43 ] . ويتمسّك نوح بولده ، ويحرص كل الحرص على نجاته فيقول : { رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ … } [ هود : 45 ] . فيأتي فَصْل الخطاب في هذه القضية : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّيۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } [ هود : 46 ] . إذن : هذا الولد ليس من أهلك لأن البُنُوة هنا بُنُوة العمل ، لا بُنُوة الدم والنَّسَب . صحيح أن الإنسان يحب العزة ويطلبها لنفسه ، ولكن يجب أن تنظر كيف تكون العزة الحقيقية ؟ وما أسبابها ؟ خُذْ العزة بالله وبالرسول وبالبيئة الإيمانية ، يصبح كل الأولاد أولادك لأنهم معك في يقينك بالله وإيمانك به سبحانه … أما أن تعتز بطريقتك أنت ، فتطلب العزة في الولد الذكَر ، فمَنْ يُدرِيك أن تجد فيه العزة والعِزوة والمكاثرة ؟ ! ثم يقول الحق سبحانه : { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ … } .