Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 66-66)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الكون الذي خلقه الله تعالى فيه أجناس متعددة ، أدناها الجماد المتمثل في الأرض والجبال والمياه وغيرها ، ثم النبات ، ثم الحيوان ، ثم الإنسان . وفي الآية السابقة أعطانا الحق - تبارك وتعالى - نموذجاً للجماد الذي اهتزَّ بالمطر وأعطانا النبات ، وهنا تنقلنا هذه الآية إلى جنس أعلى وهو الحيوان . { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً … } [ النحل : 66 ] . والمقصود بالأنعام : الإبل والبقر والغنم والماعز ، وقد ذُكِرتْ في سورة الأنعام في قوله تعالى : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ ٱلإِبْلِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ٱثْنَيْنِ … } [ الأنعام : 143 - 144 ] . هذه هي الأنعام . وقوله سبحانه : { لَعِبْرَةً } العِبْرة : الشيء الذي تعتبرون به ، وتستنجون منه ما يدلكم على قدرة الصانع الحكيم سبحانه وتعالى ، وتأخذون من هذه الأشياء دليلاً على صِدْق منهجه سبحانه فتصدقونه . ومن معاني العبرة : العبور والانتقال من شيء لآخر … أي : أن تأخذ من شيء عبرة تفيد في شيء آخر . ومنها العَبْرة الدمعة ، وهي : شيء دفين نبهْتَ عنه وأظهرتَهُ . والمراد بالعبرة في خلق الأنعام : { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } [ النحل : 66 ] . مادة : سقى جاءت في القرآن مرة " سقى " . ومرة " أَسْقى " ، وبعضهم قال : إن معناهما واحد ، ولكن التحقيق أن لكل منهما معنًى ، وإن اتفقا في المعنى العام . سقى : كما في قوله تعالى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [ الإنسان : 21 ] . أي : أعطاهم ما يشربونه … ومضارعه يَسقي . ومنها قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام : { فَسَقَىٰ لَهُمَا … } [ القصص : 24 ] . أما أسقى : كما في قوله تعالى : { فَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } [ الحجر : 22 ] . فمعناه أنه سبحانه أنزل الماء من السماء لا يشربه الناس في حال نزوله ، ولكن ليكون في الأرض لمن أراد أنْ يشربَ … فالحق تبارك وتعالى لم يفتح أفواه الناس أثناء نزول المطر ليشربوا منه … لا … بل هو مخزون في الأرض لمن أراده . والمضارع من أَسْقى : يُسقي . إذن : هناك فَرْق بين الكلمتين ، وإنِ اتفقنا في المعنى العام … وفرْق بين أن تُعطي ما يُستفَادُ منه في ساعته ، مثل قوله : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ … } [ الإنسان : 21 ] . وبين أنْ تعطي ما يمكن الاستفادة منه فيما بعد كما في قوله : { فَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ … } [ الحجر : 22 ] . لذلك يقولون : إن الذي يصنع الخير قد يصنعه عاجلاً ، فيعطي المحتاج مثلاً رغيفاً يأكله ، وقد يصنعه مؤُجّلاً فيعطيه ما يساعده على الكسْب الدائم ليأكل هو متى يشاء من كسْبه . والحق - تبارك وتعالى - أعطانا هذه الفكرة في سورة الكهف ، في قصة ذي القرنين ، قال تعالى : { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } [ الكهف : 93 ] . فما داموا لا يفقهون قَوْلاً … فكيف تفاهم معهم ذو القرنين ، وكيف قالوا : { يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً } [ الكهف : 94 ] . نقول : الذي يريد أن يفعل الخير والمعروف يسعى إليه ويحتال للوصول إليه وكأنه احتال أنْ يفهمهم ، وصبر عليهم حتى توصّل إلى طريقة للتفاهم معهم ، في حين أنه كان قادراً على ترْكهم والانصراف عنهم ، وحُجّته أنهم لا يفقهون ولا يتكلمون . فلما أراد ذو القرنين أن يبني لهم السد لم يَبْنِ هو بنفسه ، بل علَّمهم كيف يكون البناء ، حتى يقوموا به بأنفسهم متى أرادوا ولا يحتاجون إليه … فقال : { آتُونِي زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ قَالَ ٱنفُخُواْ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [ الكهف : 96 ] . إذن : علَّمهم وأحسن إليهم إحساناً دائماً لا ينتهي . وقوله : { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ … } [ النحل : 66 ] . أي : مما في بطون الأنعام ، فقد ذكَّر الضمير في بطونه باعتبار إرادة الجنس . وقد أراد الحق سبحانه أن يخرج هذا اللبن : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً … } [ النحل : 66 ] . والفَرْث في كرش الحيوان من فضلات طعامه . فالعبرة هنا أن الله تعالى أعطانا من بين الفَرْث ، وهو رَوَثُ الأنعام وبقايا الطعام في كرشها ، وهذا له رائحة كريهة ، وشكل قذر مُنفّر ، ومن بين دم ، والدم له لونه الأحمر ، وهو أيضاً غير مُسْتساغ ومنهما يُخرِج لنا الخالق سبحانه لبناً خالصاً من الشوائب نقياً سليماً من لون الدم ورائحة الفَرْث . ومَنْ يقدر على ذلك إلا الخالق سبحانه ؟ ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله واصفاً هذا اللبن : { لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } [ النحل : 66 ] . أي : يسيغه شاربه ويستلذّ به ، ولا يُغَصُّ به شاربه ، بل هو مُسْتساغ سَهْل الانزلاق أثناء الشُّرْب لأن من الطعام أو الشراب ما يحلو لك ويسُوغ وتهنأ به ، ولكنه قد لا يكون مريئاً . ولذلك ، فالحق سبحانه يقول : { فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [ النساء : 4 ] . هنيئاً أي : تستلِذّون به ، ومريئاً : أي نافعاً للجسم ، يمري عليك لأنك قد تجد لَذة في شيء أثناء أَكْله أو شُرْبه ، ثم يسبِّب لك متاعب فيما بَعْد ، فهو هَنِيءٌ ولكنه غير مَرِيء . فاللبن من نِعَم الله الدالة على قدرته سبحانه ، وفي إخراجه من بين فَرْث ودم عبرة وعِظَة ، وكأن الحق سبحانه يعطينا هذه العبرة لينقلنا من المعنى الحسيِّ الذي نشاهده إلى المعنى القيميّ في المنهج ، فالذي صنع لنا هذه العبرة لإصلاح قالبنا قادرٌ على أن يصنعَ لنا من المنهج ما يُصلِح قلوبنا . ثم يقول الحق سبحانه : { وَمِن ثَمَرَاتِ … } .