Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 70-70)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ … } [ النحل : 70 ] . هذه حقيقة لا يُنكرها أحد ، ولم يَدّعِها أحدٌ لنفسه ، وقد أمدّكم بمقوِّمات حياتكم في الأرض والنبات والحيوان ، والأنعام التي تعطينا اللبن صافياً سليماً سائغاً للشاربين ، ثم النحل الذي فيه شفاء للناس . فالحق سبحانه أعطانا الحياة ، وأعطانا مُقوِّمات الحياة ، وأعطانا ما يُزيل معاطبَ الحياة … وما دُمْتم صدَّقتم بهذه المحسَّات فاسمعوا : { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ … } [ النحل : 70 ] . وساعة أن نسمع خلقكم ، فنحن نعترف أن الله خلقنا ، ولكنْ كيف خلقنا ؟ هذه لا نعرفها نحن لأنها ليستْ عملية معملية … فالذي خلق هو الحق سبحانه وحده ، وهو الذي يُخبرنا كيف خلق … أما أنْ يتدخَّل الإنسان ويُقحِمَ نفسه في مسألة لا يعرفُها ، فنرى مَنْ يقول : إن الإنسان أَصلْه قرد … إلى آخر هذا الهُراء الذي لا أَصْلَ له في الحقيقة . ولذلك ، فالحق سبحانه يقول لنا : إذا أردتُمْ أن تعرفوا كيف خُلِقْتُم فاسمعوا مِمَّنْ خلقكم … إياكم أنْ تسمعوا من غيره ذلك لأنني : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ … } [ الكهف : 51 ] . هذه عملية لم يُطلع الله عليها أحداً : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [ الكهف : 51 ] . أي : ما اتخذتُ مساعداً يعاونني في مسألة الخَلْق . وما هو المضلّ ؟ المضِلّ هو الذي يقول لك الكلام على أنه حقيقة ، وهو يُضلُّك . إذن : ربنا سبحانه وتعالى هنا يعطينا فكرة مُقدّماً : احذروا ، فسوف يأتي أناس يُضلونكم في موضوع الخَلْق ، وسوف يُغيّرون الحقيقة ، فإياكم أنْ تُصدِّقوهم لأنهم ما كانوا معي وقت أنْ خلقتكم فيدَّعُون العلم بهذه المسألة . ونفس هذه القضية في مسألة خَلْق السمٰوات والأرض ، فالله سبحانه هو الذي خلقهما ، وهو سبحانه الذي يُخبرنا كيف خلق . فحين يقول سبحانه : { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ … } [ النحل : 70 ] . فعلينا أن نقول : سَمْعاً وطاعة ، وعلى العين والرأس … يا ربِّ أنت خلقتنا ، وأنت تعلم كيف خلقتنا ، ولا نسأل في هذا غيرك ، ولا نُصدِّق في هذا غير قَوْلك سبحانك . ثم يقول تعالى : { ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ … } [ النحل : 70 ] . أي : منه سبحانه كان المبدأ ، وإليه سبحانه يعود المرجع … وما دام المبدأ من عنده والمرجع إليه ، وحياتك بين هذين القوسين فلا تتمرد على الله فيما بين القوسين لأنه لا يليق بك ذلك ، فأنت منه وإليه … فلماذا التمرد ؟ ربُّنا سبحانه وتعالى هنا يُعطينا دليلاً على طلاقة قدرته سبحانه في أمر الموت ، فالموت ليس له قاعدة ، بل قد يموت الجنين في بطن أمه ، وقد يموت وهو طفل ، وقد يموت شاباً أو شيخاً ، وقد يُرَدُّ إلى أرذلِ العُمر ، أي : يعيش عمراً طويلاً … وماذا في أرذل العمر ؟ ! يُرَدُّ الإنسان بعد القوة والشباب ، بعد المهابة والمكان ، بعد أنْ كان يأمر وينهى ويسير على الأرض مُخْتالاً ، يُرَدُّ إلى الضَّعْف في كل شيء ، حتى في أَمْيز شيء في تكوينه ، في فكره ، فبعد العِلْم والحِفْظ وقوة الذاكرة يعود كالطفل الصغير ، لا يذكر شيئاً ولا يقدر على شيء . ذلك لتعلم أن المسألة ليست ذاتية فيك ، بل موهوبة لك من خالقك سبحانه ، ولتعلم أنه سبحانه حينما يقضي علينا بالموت فهذا رحمة بنا وستْر لنا من الضعف والشيخوخة ، قبل أن نحتاج لمن يساعدنا ويُعينُنا على أبسط أمور الحياة ويأمر فينا مَنْ كُنّا نأمره . ومن هنا كان التوفّي نعمة من نِعَم الله علينا ، ولكي تتأكد من هذه الحقيقة انظر إلى مَنْ أمدّ الله في أعمارهم حتى بلغوا ما سماه القرآن " أرذل العمر " وما يعانونه من ضعف وما يعانيه ذووهم في خدمتهم حتى يتمنى له الوفاة أقرب الناس إليه . الوفاة إذن نعمة ، خاصة عند المؤمن الذي قدّم صالحاً يرجو جزاءه من الله ، فتراه مُسْتبشراً بالموت لأنه عمَّر آخرته فهو يُحب القدوم عليها ، على عكس المسرف على نفسه الذي لم يُعِدّ العُدّة لهذا اليوم ، فتراه خائفاً جَزِعاً لعلمه بما هو قادم عليه . وثُمَّ حَرْف للعطف يفيد الترتيب مع التراخي … أي : مرور وقت بين الحدثين … فهو سبحانه خلقكم ، ثم بعد وقت وتراخٍ يحدث الحدَث الثاني يتوفّاكم . على خلاف حرف الفاء ، فهو حرف عطف يفيد الترتيب مع التعقيب أي : تتابع الحدثين ، كما في قوله تعالى : { أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } [ عبس : 21 ] . فبعد الموت يكون الإقبار دون تأخير . وقوله تعالى : { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ … } [ النحل : 70 ] . وأرذل العمر : أردؤه وأقلّه وأخسُّه ذلك أن الله سبحانه وتعالى أخرج الإنسان من بطن أمه لا يعلم شيئاً ، فقال : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ … } [ النحل : 78 ] . وهذه هي وسائل العلم في الإنسان ، فإذا رُدَّ إلى أرذل العمر فقدتْ هذه الحواسّ قدرتها ، وضَعُفَ عملها ، وعاد الإنسان كما بدأ لا يعلم شيئاً بعد ما أصابه من الخَرف والهرم ، فقد توقفتْ آلات المعرفة ، وبدأ الإنسان ينسى ، وتضعف ذاكرته عن استرجاع ما كان يعلمه . وقوله : { لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً … } [ النحل : 70 ] . لذلك يُسمُّون هذه الحواس الوارث . ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [ النحل : 70 ] . لأنه سبحانه بيده الخَلْق من بدايته ، وبيده سبحانه الوفاة والمرجع ، وهذا يتطلَّب عِلْماً ، كما قال سبحانه : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ … } [ الملك : 14 ] . فلا بُدَّ من عِلم ، لأن الذي يصنع صَنْعة لا بُدَّ أن يعرفَ ما يُصلحها وما يُفسِدها ، وذلك يتطلَّب قدرة للإدراك ، فالعلم وحده لا يكفي . ثم يقول الحق سبحانه : { وَٱللَّهُ فَضَّلَ … } .