Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 71-71)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لو نظرنا إلى الكون من حولنا لوجدنا أننا لا نتساوى إلا في شيء واحد فقط ، هو أننا عبيدٌ لله … نحن سواسية في هذه فقط ، وما دون ذلك فنحن مختلفون فيه ، تختلف ألواننا ، تختلف أجسامنا … صورنا … مواهبنا … أرزاقنا . والعجيب أن هذا الاختلاف هو عَيْنُ الاتفاق ذلك لأن الاختلاف قد ينشأ عنه الاتفاق ، والاتفاق قد ينشأ عنه الاختلاف . مثلاً : إذا دخلتَ أنت وصديقك أحد المطاعم وطلبتما دجاجة … أنت بطبيعتك تحب صدر الدجاجة وصديقك يحب جزءاً آخر منها … هذا خلاف … فساعة أن يأتي الطعام تجد هذا الخلاف هو عين الوفاق حيث تأخذ أنت ما تحب ، وهو كذلك … هذا خلاف أدى إلى وفاق … فلو فرضنا أن كلانا يحب الصدر مثلاً … هذا وفاق قد يؤدي إلى خلاف إذا ما حضر الطعام وجلسنا : أيُّنا يأخذ الصدر ؟ ! فالحق سبحانه وتعالى خلقنا مختلفين في أشياء ، وأراد أن يكون هذا الاختلاف تكاملاً فيما بيننا … فكيف يكون التكامل إذن ؟ هل نتصور مثلاً أن يُوجَد إنسان مجمعاً للمواهب ، بحيث إذا أراد بناء بيت مثلاً كان هو المهندس الذي يرسم ، والبنَّاء الذي يبني ، والعامل الذي يحمل ، والنجار والحداد والسباك … الخ . هل نتصور أن يكون إنسان هكذا ؟ … لا … ولكن الخالق سبحانه نثَر هذه المواهب بين الناس نَثْراً لكي يظل كل منهم محتاجاً إلى غيره فيما ليس عنده من مواهب ، وبهذا يتم التكامل في الكون . إذن : الخلاف بيننا هو عَيْن الوفاق ، وهو آية من آياته سبحانه وحكمة أرادها الخالق جَلَّ وعَلا ، فقال : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } [ هود : 118 ] . فقد خلقنا هكذا . وإلا فلو اتحدنا واتفقنا في المواهب ، فهل يعقل أن نكون جميعاً فلاسفة ، أطباء ، علماء ، فمَنْ يبني ؟ ومَنْ يزرع ؟ ومَنْ يصنع ؟ … الخ . إذن : من رحمة الله أنْ جعلنا مختلفين متكاملين . فالحق سبحانه يقول : { فِي ٱلْرِّزْقِ … } [ النحل : 71 ] . ينظر الناس إلى الرزق من ناحية واحدة ، فهو عندهم المال ، فهذا غنيّ وهذا فقير … والحقيقة أن الرزق ليس المال فقط ، بل كُلّ شيء تنتفع به فهو رِزْقك … فهذا رِزْقه عقله ، وهذا رِزْقه قوته العضلية … هذا يفكر وهذا يعمل . إذن : يجب ألاَّ ننظر إلى الرزق على أنه لَوْن واحد ، بل ننظر إلى كل ما خلق الله لخَلْقه من مواهب مختلفة : صحة ، قدرة ، ذكاء ، حِلْم ، شجاعة … كل هذا من الرزق الذي يحدث فيه التفاضل بين الناس . والحق سبحانه وتعالى حينما تعرَّض لقضية الرزق جعل التفاضل هنا مُبْهماً ، ولم تحدد الآية مَنِ الفاضل ومَنِ المفضول ، فكلمة - بَعْضٍ - مُبْهمة لنفهم منها أن كل بعض من الأبعاض فاضل في ناحية ، ومفضول في ناحية أخرى . . فالقوي فاضل على الضعيف بقوته ، وهو أيضاً مفضول ، فربما كان الضعيف فاضلاً بما لديه من علم أو حكمة … وهكذا . إذن : فكلُّ واحد من خَلْق الله رَزَقه الله موهبة ، هذه الموهبة لا تتكرر في الناس حتى يتكامل الخَلْق ولا يتكررون … وإذا وجدت موهبة في واحد وكانت مفقودة في الآخر فالمصلحة تقتضي أن يرتبط الطرفان ، لا ارتباط تفضُّل ، وإنما ارتباط حاجة … كيف ؟ القويُّ يعمل للضعيف الذي لا قوةَ له يعمل بها ، فهو إذن فاضل في قوته ، والضعيف فاضل بما يعطيه للقوي من مال وأجر يحتاجه القوي ليقُوتَ نفسه وعياله ، فلم يشأ الحق سبحانه أنْ يجعلَ الأمر تفضُّلاً من أحدهما على الآخر ، وإنما جعله تبادلاً مرتبطاً بالحاجة التي يستبقي بها الإنسان حياته . وهكذا يأتي هذا الأمر ضرورة ، وليس تفضَّلاً من أحد على أحد لأن التفضُّل غير مُلْزَم به - فليس كل واحد قادراً على أن يعطي دون مقابل ، أو يعمل دون أجر … إنما الحاجة هي التي تحكم هذه القضية . إذن : ما الذي ربط المجتمع ؟ هي الحاجة لا التفضُّل ، وما دام العالم سيرتبط بالحاجة ، فكل إنسان يرى نفسه فاضلاً في ناحية لا يغترّ بفاضليته ، بل ينظر إلى فاضلية الآخرين عليه وبذلك تندكُّ سِمَة الكبرياء في الناس ، فكلٌّ منهما يُكمل الآخر . وقد ضربنا لذلك مثلاً بالباشا الغني صاحب العظمة والجاه … والذي قد تُلْجِئه الظروف وتُحوجه لعامل بسيط يُصلح له عُطْلاً في مرافق بيته ، وربما لم يجده أو وجده مشغولاً ، فيظل هذا الباشا العظيم نَكِداً مُؤرّقاً حتى يُسعفه هذا العامل البسيط ، ويقضي له ما يحتاج إليه . هكذا احتاج صاحب الغنى والجاه إلى إنسان ليس له من مواهب الحياة إلا أنْ يقضي مثل هذه المهام البسيطة في المنزل … وهو في نفس الوقت فاضل على الباشا في هذا الشيء . فالجميع - إذن - في الكون سواسية ، ليس فينا مَنْ بينه وبين الله سبحانه نسب أو قرابة فيجامله … كلنا عبيد لله ، وقد نثر الله المواهبَ في الناس جميعاً ليتكاملوا فيما بينهم ، وليظل كُلٌّ منهم محتاجاً إلى الآخر ، وبهذا يتم الترابط في المجتمع . وقد عُرِضَتْ هذه القضية في آية أخرى في قوله تعالى : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } [ الزخرف : 32 ] . البعض يفهم أن الفقير مُسخّر للغنيّ ، لكن الحقيقة أن كلاً منهما مُسخَّر للآخر … فالفقير مُسخّر للغني حينما يعمل له العمل ، والغني مُسخّر للفقير حينما يعطي له أجره … ولذلك فالشاعر العربي يقول : @ النَّاسُ لِلْناسِ مِنْ بَدْوٍ وحاضرة بَعْضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خَدَمُ @@ ونضرب هنا مثلاً بأخسِّ الحرف في عُرْف الناس - وإنْ كانت الحِرف كلها شريفة ، وليس فيها خِسَّة طالما يقوت الإنسان منها نفسه وعياله من الحلال . . فالخِسَّة في العاطل الأخرق الذي يُتقِن عملاً . هذا العامل البسيط ماسح الأحذية ينظر إليه الناس على أنهم أفضل منه ، وأنه أقل منهم ، ولو نظروا إلى علبة الورنيش التي يستخدمها لوجدوا كثيرين من العمال والعلماء والمهندسين والأغنياء يعملون له هذه العلبة ، وهو فاضل عليهم جميعاً حينما يشتري علبة الورنيش هذه … لكن الناس لا ينظرون إلى تسخير كل هؤلاء لهذا العامل البسيط . فقوله تعالى : { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً … } [ الزخرف : 32 ] . مَنْ مِنّا يُسخّر الآخر ؟ ! كُلٌّ منا مُسخَّر للآخر ، أنت مُسخَّر لي فيما تتقنه ، وأنا مُسخَّر لك فيما أتقنه … هذه حكمة الله في خَلْقه ليتم التوازن والتكامل بين أفراد المجتمع . وربُّنا سبحانه وتعالى لم يجعل هذه المهن طبيعية فينا … يعني هذا لكذا وهذا لكذا … لا … الذي يرضى بقدر الله فيما يُناسبه من عمل مهما كان حقيراً في نظر الناس ، ثم يُتقن هذا العمل ويجتهد فيه ويبذل فيه وُسْعه يقول له الحق سبحانه : ما دُمْتَ رضيتَ بقدري في هذا العمل لأرفعنّك به رِفْعة يتعجَّب لها الخَلْق … وفعلاً تراهم ينظرون إلى أحدهم ويشيرون إليه : كان شيالاً … كان أجيراً … نعم كان … لكنه رَضِي بما قسم الله وأتقن وأجاد ، فعوَّضه الله ورفعه وأعلى مكانته . ولذلك يقولون : مَنْ عمل بإخلاص في أيّ عمل عشر سنين يُسيّده الله بقية عمره ، ومَنْ عمل بإخلاص عشرين سنة يُسيّد الله أبناءه ، ومَنْ عمل ثلاثين سنة سيَّد الله أحفاده … لا شيء يضيع عند الله سبحانه . فليس فينا أَعْلى وأَدْنى ، وإياك أنْ تظنَّ أنك أعلى من الناس ، نحن سواسية ، ولكن مِنَّا من يُتقِن عمله ، ومِنَّا مَنْ لا يتقن عمله ولذلك قالوا : قيمة كل امرئ ما يُحسِنه . ولا تنظر إلى زاوية واحدة في الإنسان ، ولكن انظر إلى مجموع الزوايا ، وسوف تجد أن الحق سبحانه عادلٌ في تقسيم المواهب على الناس . وقد ذكرنا أنك لو أجريتَ معادلة بين الناس لوجدتَ مجموع كل إنسان يساوي مجموع كُلِّ إنسان ، بمعنى أنك لو أخذتَ مثلاً : الصحة والمال والأولاد والقوة والشجاعة وراحة البال والزوجة الصالحة والجاه والمنزلة … الخ لوجدت نصيب كُلٍّ منّا في نهاية المعادلة يساوي نصيب الآخر ، فأنت تزيد عني في القوة ، وأنا أزيد عنك في العلم ، وهكذا … لأننا جميعاً عبيدٌ لله ، ليس مِنّا مَنْ بينه وبين الله نسب أو قرابة . وقوله تعالى : { فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ … } [ النحل : 71 ] . فما ملكت أيمانهم : هم العبيد المماليك … والمعنى : أننا لم نَرَ أحداً منكم فضّله الله بالرزق ، فأخذه ووزّعه على عبيده ومماليكه ، أبداً … لم يحدث ذلك منكم . . والله سبحانه لا يعيب عليهم هذا التصرف ، ولا يطلب منهم أنْ يُوزّعوا رزق الله على عبيدهم ، ولكن في الآية إقامةٌ للحجة عليهم ، واستدلال على سُوء فعلهم مع الله سبحانه وتعالى . وكأن القرآن يقول لهم : إذا كان الله قد فُضَّل بعضكم في الرزق ، فهل منكم مَنْ تطوع برزق الله له ، ووزَّعه على عبيده ؟ … أبداً … لم يحدث منكم هذا … فكيف تأخذون حق الله في العبودية والألوهية وحقّه في الطاعة والعبادة والنذر والذبح ، وتجعلونه للأصنام والأوثان ؟ ! فأنتم لم تفعلوا ذلك فيما تملكون … فكيف تسمحون لأنفسكم أنْ تأخذوا حقَّ الله ، وتعطوه للأصنام والأوثان ؟ ويقول تعالى في آية أخرى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ … } [ الروم : 28 ] . أي : أنكم لم تفعلوا هذا مع أنفسكم ، فكيف تفعلونه مع الله ؟ فهذه لَقْطة : أنكم تُعاملون الله بغير ما تُعاملون به أنفسكم : { فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ … } [ النحل : 71 ] . أي : أنكم سوَّيتُم بين الله سبحانه وبين أصنامكم ، وجعلتموهم شركاء له سبحانه وتعالى وتعبدونهم مع الله . والحق سبحانه وإنْ رزقنا وفضَّلَنا فقد حفظ لنا المال ، وحفظ لنا الملكية ، ولم يأمرنا أن نعطي أموالنا للناس دون عمل وتبادل منافع ، فإذا ما طلب منك أن تعطي أخاك المحتاج فوق ما افترض عليك من زكاة يقول لك : { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ … } [ البقرة : 245 ] . مع أن الحق سبحانه واهب الرزق والنِّعَم ، يطلب منك أنْ تُقرِضه ، وكأنه سبحانه يحترم عملك ومجهودك ، ويحترم ملكيتك الخاصة التي وهبها لَك … فيقول : أقرضني . لعلمه سبحانه بمكانة المال في النفوس ، وحِرْص المقرض على التأكد من إمكانية الأداء عند المقترض ، فجعل القرض له سبحانه لتثقَ أنت أيها المقرض أن الأداء مضمون من الله . ويختم الحق سبحانه الآية بقوله : { أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ النحل : 71 ] . أي : بعد أنْ أنعم الله عليهم بالرزق ، ولم يطلب منهم أنْ ينثروه على الغير ، جحدوا هذه النعمة ، وأنكروا فَضْل الله ، وجعلوا له شركاء من الأصنام والأوثان ، وأخذوا حَقَّ الله في العبودية والألوهية وأعطوْهُ للأصنام والأوثان ، وهذا عَيْنُ الجحود وإنكار الجميل . ثم يقول الحق سبحانه : { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ … } .