Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 73-73)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والعبادة أن يطيع العابد معبوده ، وهذه الطاعة تقتضي تنفيذ الأمر واجتناب النهي … فهل العبادة تنفيذ الأمر واجتناب النهي فقط ؟ نقول : لا بل كل حركة في الحياة تُعين على عبادة فهي عبادة ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ولتوضيح هذه القضية نضرب هذا المثل : إذا أردتَ أن تُؤدّي فرض الله في الصلاة مثلاً ، فأنت تحتاج إلى قوة لتؤدي هذه الفريضة ، ولن تجد هذه القوة إلا بالطعام والشراب ، ولنأخذ أبسط ما يمكن تصوّره من الطعام … رغيف العيش … فانظر كم يّدٌ شاركتْ فيه منذ كان حبةَ قمح تلقى في الأرض إلى أنْ أصبح رغيفاً شهياً . إن هؤلاء جميعاً الذين أداروا دولاب هذه العملية يُؤدّون حركة إيجابية في الحياة هي في حَدِّ ذاتها عبادة لأنها أعانتْك على عبادة . أيضاً إذا أردت أنْ تُصلّي ، فواجب عليك أنْ تستر عورتك … انظر إلى هذا القماش الذي لا تتم الصلاة إلا به … كُلّ مَنْ أسهم في زراعته وصناعته حتى وصل إليك … جميعهم يؤدون عبادة بحركتهم في صناعة هذا القماش . إذن : كل شيء يُعينك على عبادة الله فهو عبادة ، وكل حركة في الكون تؤدي إلى شيء من هذا فهي عبادة . والحق سبحانه وتعالى حينما استدعى المؤمنين لصلاة الجمعة ، قال سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ … } [ الجمعة : 9 ] . لم يأخذهم من فراغ ، بل من عمل ، ولكن لماذا قال سبحانه : وَذَرُوا البَيْعَ … لماذا البيع بالذات ؟ قالوا : لأن البيع هو غاية كل حركات الحياة ، فهو واسطة بين مُنتج ومُسْتهلك … ولم يَقُل القرآن : اتركوا المصانع أو الحقول ، لأن هناك أشياء لا تأتي ثمرتها في ساعتها … فمَنْ يزرع ينتظر شهوراً ليحصد ما زرع ، والصانع ينتظر إلى أن يبيعَ صناعته … لكن البيع صفقة حاضرة ، فهي محلّ الاهتمام … وكذلك لم يَقُلْ : ذروا الشراء ، قالوا : لأن البائع يحب أن يبيعَ ، ولكن المشتري قد يشتري وهو كاره … فأتى القرآن بأدقِّ شيء يمكن أن يربطك بالزمن ، وهو البيع . فإذا ما انقضتْ الصلاة أُمرنا بالعودة إلى العمل والسعي في مناكب الأرض : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ … } [ الجمعة : 10 ] . فقوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ … } [ النحل : 73 ] . أراد الحق سبحانه أن يتكلم عن الجهة التي يُؤثِرونها على الله … وهي الأصنام … فالله سبحانه الذي خلقهم ورزقهم من الطيبات ، وجعل لهم من أنفسهم أزواجاً ، وجعل لهم بنين وحفدة … كان يجب أن يعبدوه لنعمته وفَضْله … فالذي لا يعبد الله لذاته سبحانه يعبده لنعمه وحاجته إليه . . فعندنا عبادة للذات لأنه سبحانه يستحق العبادة لذاته ، وعبادة لصفات الذات في معطياتها ، فمَنْ لم يعبده لذاته عبده لنعمته . وطالما أن العبادة تقتضي تنفيذ الأوامر واجتناب النواهي … فكيف تكون العبادة إذن في حق هذه الأصنام التي اتخذوها ؟ ! كيف تعبدونها وهي لم تأمركم بشيء ولم تنهكُمْ عن شيء ؟ ! . وهذا أول نَقْد لعبادة غير الله من شمس أو قمر أو صنم أو شجر . وكذلك … ماذا تعطي الأصنام أو غيرها من معبوداتكم لمن عبدها ، وماذا أعدَّتْ لهم من ثواب ؟ ! وبماذا تعاقب مَنْ كفر بها ؟ … إذن : فهو إله بلا منهج . والتديّن غريزة في النفس يلجأ إليها الإنسان في وقت ضعفه وحاجته … والله سبحانه هو الذي يحب أن نلجأ إليه وندعو ونطلب منه قضاء الحاجات … وله منهج يقتضي مطلوبات تدكُّ السيادة والطغيان في النفوس ويقتضي تكليفات شاقة على النفس . إذن : لجأ الكفار إلى عبادة الأصنام والأوثان لأنها آلهة بلا تكليف ، ومعبودات بلا مطلوبات . ما أسهل أن يتمحّك إنسان في إله ويقول : أنا أعبده دون أن يأمر بشيء أو ينهى عن شيء ! ما أسهل أن يُرضي في نفسه غريزة التدين بعبادة مثل هذا الإله . لكن يجب ألاّ تنسوا أن هذا الإله الذي ليس له تكليف لن تستطيعوا أنْ تطلبوا منه شيئاً ، أو تلجأوا إليه في شدة … فهذا غير معقول فكما أنهم لا يطلبون منكم شيئاً ، كذلك لا يملكون لكم نَفْعاً ولا ضراً . لذلك وجدنا الذين يدَّعُون النبوة … هؤلاء الكذابون يُيسِّرون على الناس سُبُل العبادة ، ويُبيحون لهم ما حرَّمه الدين مثل اختلاط الرجال والنساء وغيره ذلك لاستقطاب أكبر عدد ممكن من الأتباع . فجاء مسيلمة الكذاب وأراد أن يُسهِّل على الناس التكليف فقال بإسقاط الصلاة ، وجاء الآخر فقال بإسقاط الزكاة … وقد جذب هذا التسهيل كثيراً من المغفلين الذين يَضِيقون بالتكليف ، ويميلون لدين سَهْل يناسب هِمَمهم الدَّنية . وهكذا وجدنا لهؤلاء الكذابين أنصاراً يُؤيّدونهم ويُناصرونهم … ولكن سرعان ما تتكشف الحقائق ، ويقف هؤلاء المخدوعون على حقيقة أنبيائهم . وقوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً … } [ النحل : 73 ] . نلاحظ في هذه الآية نَوْعاً من الارتقاء في الاستدلال على بطلان عبادة الأصنام ذلك لأن الحق تبارك وتعالى قال عنهم في آية أخرى : { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [ النحل : 20 ] . فنفى عنهم القدرة على الخَلْق ، بل إنهم هم المخلوقون … يذهب الواحد منهم فيُعجبه حجر ، فيأخذه ويُعمل فيه مِعْوله حتى يُصوِّره على صورة ما ، ثم يتخذه إلهاً يعبده من دون الله . فلما نفى عنهم القدرة على الخَلْق أراد هنا أنْ يترقّى في الاستدلال ، فنفى عنهم مجرد أنْ يملكوا ، فقد يملك الواحد ما لا يخلقه ، فتُقرّر الآية هنا أنهم لا يملكون . . مجرد الملك . وقوله تعالى : { مِّنَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ شَيْئاً … } [ النحل : 73 ] . فالرزق من السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات ، ومن المصدرين يأتي رزق الله ، وبذلك يضمن لنا الحق تبارك وتعالى مُقوِّمات الحياة وضرورياتها من ماء السماء ونبات الأرض . فإنْ أردتُمْ ترفَ الحياة فاجتهدوا فيما أعطاكم الله من مُقوِّمات الحياة لِتصلوا إلى هذا الترف . فالرزق الحقيقي المباشر ما أنزله الله لنا من مطر السماء فأنبت لنا نبات الأرض . ونُوضِّح ذلك فنقول : هَبْ أن عندك جبلاً من ذهب ، أو جبلاً من فضة ، وقد عضَّك الجوع في يوم من الأيام … هل تستطيع أنْ تأكلَ من الذهب أو الفضة ؟ إنك الآن في حاجة لرغيف عيش ، لا لجبل من ذهب أو فضة … رغيف العيش الذي يحفظ لك حياتك في هذا الموقف أفضل من هذا كله . وهذا هو الرزق المباشر الذي رزقه الله لعباده ، أما المال فهو رِزْق غير مباشر ، لا تستطيع أن تأكل منه أو تعيش عليه . وكلمة : شَيْئَاً أي : أقلّ ما يُقَال له شيء ، فالأصنام والأوثان لا تملك لهم رزقاً مهما قَلَّ لأنه قد يقول قائل : لا يملكون رِزْقاً يكفيهم … لا … بل لا يملكون شيئاً . ثم يعطينا الحق سبحانه لمحة أخرى في قوله تعالى : { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } [ النحل : 73 ] . أي : لا يملكون لهم رِزْقاً في الحاضر ، ولن يملكوا في المستقبل ، وهذا يقطع الأمل عندهم ، فهُمْ لا يملكون اليوم ، ولن يملكوا غداً ذلك لأن هناك أشياء ينقطع الحكم فيها وَقْتاً … وأشياء مُعلّقة يمكن أن تُسْتأنفَ فيما بعد ، فهذه الكلمة : { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } [ النحل : 73 ] . حُكْم قاطع لا استئناف له فيما بَعْد . ولذلك نجد هؤلاء الذين يُحِبّون أنْ يجدوا في القرآن مَأْخذاً يجادلون في قوله تعالى : { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [ الكافرون : 1 - 5 ] . فهؤلاء يروْن في السورة تكراراً يتنافى وبلاغةَ القرآن الكريم … نقول : ليس في السورة تكرار لو تأملتُم … ففي السورة قَطْع علاقات على سبيل التأبيد والاستمرار ، فالحق سبحانه يقول : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ الكافرون : 6 ] . في الحاضر ، وفي المستقبل ، وإلى يوم القيامة . فقوله : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [ الكافرون : 2 - 3 ] . هذا قَطْع علاقات في الوقت الحاضر … ولكن مَنْ يُدرِينا لعلَّنا نستأنف علاقات أخرى فيما بعد … فجاء قوله تعالى : { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [ الكافرون : 4 - 5 ] . لا للتكرار ، ولكن لقطع الأمل في إعادة العلاقات في المستقبل ، فالقضية - إذن - منتهية من الآن على سبيل القَطْع . كذلك المعنى في قوله تعالى : { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } [ النحل : 73 ] . أي : لا يستطيعون الآن ، ولا في المستقبل . ثم يقول الحق سبحانه : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ … } .