Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 72-72)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحق سبحانه في الآية السابقة قنَّن لنا قضية القمة - قضية العقيدة - في أننا لا نعطي شيئاً جعله الله لنفسه سبحانه من العبودية والألوهية والطاعة وغيرها ، لا نعطيها لغيره سبحانه … وإذا صَحَّتْ هذه القضية العَقدية صَحَّتْ كل قضايا الكون . ثم بيَّن سبحانه أنه خلقنا من واحد ، ثم خلق من الواحد زوجة له ، ليتم التناسل والتكاثر … إذ إن استمرارَ بقائكم خاضعٌ لأمرين : الأمر الأول : استبقاء الحياة ، وقد ضمنه سبحانه بما أنعم به علينا من الأرزاق ، فنأكل ونشرب فنستبقي الحياة ، فبعد أنْ تحدّث عن استبقاء الحياة بالرزق في الآية السابقة ذكر : الأمر الثاني : وهو استبقاء الحياة ببقاء النوع ، فقال سبحانه : { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً … } [ النحل : 72 ] . والأزواج : جمع زوج ، والزوج لا يعني الرجل فقط ، بل يعني الرجل والمرأة لأن كلمة زوج تُطلَق على واحد له نظير من مثله ، فكلُّ واحد منهما زَوْج … الرجل زوج ، والمرأة زوج ، فتُطلق - إذن - على مُفْرد ، لكن له نظير من مثله . و { مِّنْ أَنْفُسِكُمْ … } [ النحل : 72 ] . أي : من نَفْس واحدة ، كما قال في آية أخرى : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا … } [ الزمر : 6 ] . يعني : أخذ قطعة من الزوج ، وخلق منها الزوجة ، كما خلق سبحانه حواء من آدم - عليهما السلام . أو : { وَخَلَقَ مِنْهَا … } [ النساء : 1 ] . أي : من جنسها ، كما قال تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ … } [ التوبة : 128 ] . أي : من جنسكم . فالمسألة تحتمل المعنيين … مَن اتسع ظنُّه إلى أن الله خلق حواء من ضِلع آدم أي : منه ، من بعضه فلا مانع ، ومَنْ قال : خلق الله حواء كما خلق آدم خَلْقاً مستقلاً ، ثم زَاوَج بينهما بالزواج فلا مانع … فالأول على معنى البَعْضية ، والثاني على معنى من جنسكم . قلنا : إن الجمع إذا قابل الجمع اقتضت القسمةُ آحاداً … كما لو قال المعلم لتلاميذه : أخرِجوا كتبكم ، فهو يخاطب التلاميذ وهم جَمْع . وكتبهم جمع ، فهل سيُخرِج كل تلميذ كُتب الآخرين ؟ ! … لا … بل كل منهم سيُخرج كتابه هو فقط … إذن : القسمة هنا تقتضي آحاداً … وكذلك المعنى في قوله تعالى : { خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً … } [ الروم : 21 ] . أي : خلق لكل منكم زَوْجاً . ولكي نتأكد من هذه الحقيقة ، وأن الخَلْق بدأ بآدم عليه السلام - نردُّ الأشياء إلى الماضي ، وسوف نجد أن كُلَّ متكاثر في المستقبل يتناقص في الماضي … فمثلاً سُكّان العالم اليوم أكثر من العام الماضي … وهكذا تتناقص الأعداد كلما أوغلنا في الماضي ، إلى أن نصلَ إلى إنسان واحد هو آدم عليه السلام - ومعه زوجه حواء ، لأن أقلَّ التكاثر من اثنين . إذن : قوله سبحانه : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا … } [ النساء : 1 ] . كلام صحيح يؤيّده الاستقراء والإحصاء . لذلك يمتنُّ ربّنا سبحانه علينا أنْ خلقَ لنا أزواجاً ، ويمتنُّ علينا أن جعل هذا الزوج من أنفسنا ، وليس من جنس آخر ، لأن إلْفَ الإنسان وأنْسه لا يتم إلا بجنسه ، وهذه من أعظم نعم الله علينا ، ولك أن تتصوَّر الحال إذا جعل الله لنا أزواجاً من غير جنسنا ! ! كيف يكون ؟ ! هذا الزوج اشترك معنا في أشياء ، واختلف عنّا في شيء واحد ، اتفقنا في أشياء : فالشكل واحد ، والقالب واحد ، والعقل واحد ، والأجزاء واحدة : عينان وأذنان … يدان ورجْلان … الخ ، وهذا الاشتراك يُعين على الارتقاء والمودة والأنْس والألْفة . واختلفنا في شيء واحد هو النوع : فهذا ذكر ، وهذه أنثى . إذن : جمعنا جنس ، وفرَّقنا النوع لِيتمّ بذلك التكامل الذي أراده سبحانه لعمارة الأرض . وهناك احتمال أن يتحوَّل الذكر إلى أنثى أو الأنثى إلى ذكر ، لذلك خلق الله الاحتياط لهذه الظاهرة ، كأنْ يكونَ للرجل ثَدْي صغير ، أو غيره من الأعضاء القابلة للتحويل ، إذا ما دَعَتْ الحاجة لتغيير النوع … فهذا تركيب حكيم وقدرة عالية . إذن : { مِّنْ أَنْفُسِكُمْ … } [ النحل : 72 ] . ليزداد الإلْف والمحبة والأُنْس والمودّة بينكم ولذلك نجد في قصة سيدنا سليمان عليه السلام - والهدهد ، حينما تفقَّد الطير وعرف غياب الهدهد قال : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [ النمل : 21 ] . وهذا سلطان الملْك الذي أعطاه الله لسليمان … قالوا في : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً … } [ النمل : 21 ] . أي : يضعه في غير جنْسه … إذن : وَضْعه في غير جنسه نوع من العذاب … وتكون من أنفسكم نعمة ورحمة من الله . وفي الآية الأخرى يذكر سبحانه عناصر ثلاثة لاستبقاء العلاقة الزوجية ، فيقول تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ الروم : 21 ] . ولو تأملنا هذه المراحل الثلاثة لوجدنا السكن بين الزوجين ، حيث يرتاح كُلٌّ منهما إلى الآخر ، ويطمئن له ويسعد به ، ويجد لديه حاجته … فإذا ما اهتزتْ هذه الدرجة ونفرَ أحدهما من الآخر جاء دور المودّة والمحبة التي تُمسِك بزمام الحياة الزوجية وتوفر لكليهما قَدْراً كافياً من القبول . فإذا ما ضعف أحدهما عن القيام بواجبه نحو الآخر جاء دور الرحمة ، فيرحم كل منهما صاحبه … يرحم ضَعْفه … يرحم مرضه … وبذلك تستمر الحياة الزوجية ، ولا تكون عُرْضة للعواصف في رحلة الحياة . فإذا ما استنفدنا هذه المراحل ، فلم يَعُدْ بينهما سَكَن ولا مودّة ، ولا حتى يرحم أحدهما صاحبه فقد استحالتْ بينهما العِشرة ، وأصبح من الحكمة مفارقة أحدهما للآخر . وهنا شرع الحق سبحانه الطلاق ليكون حلاً لمثل هذه الحالات ، ومع ذلك جعله ربنا سبحانه أبغض الحلال ، حتى لا نقدم عليه إلا مُضطرِّين مُجْبرين . وقوله تعالى : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً … } [ النحل : 72 ] . البنون هم الحلقة الأولى لاستبقاء الحياة ، والحفَدة وهم وَلَدُ الولد ، هم الحلقة الثانية لاستبقاء الحياة ذلك لأن الإنسان بطبْعه يحب الحياة ويكره الموت ، وهو يراه كل يوم يحصد النفوس من حَوْله … فإيمانه بالموت مسألة محققة ، فإذا ما تيقَّن أن الحياة تفوته في نفسه أراد أنْ يستبقيَها في وَلَده … ومن هنا جاء حُبُّ الكثيرين مِنَّا ، للذكور الذين يُمثِّلون امتداداً للآباء . فإذا ما رزقه الله الأبناء ، وضمن له الجيل الأول تطلّع إلى أنْ يرى أبناء الأبناء ليستبقي الحياة له ولولده من بعده ولذلك فالشاعر الذي يخاطب ابنه يقول له : @ أبُنيّ … يَا أنَا بَعْدَمَا أَقْضِي @@ وهذه هي نظرة الناس إلى الأولاد ، أنهم ذِكْر لهم بعد موتهم … وكأن اسمه موصولٌ لا ينتهي . ويقول الله تبارك وتعالى : { بَنِينَ وَحَفَدَةً … } [ النحل : 72 ] . تدلُّنا على ضرورة الحِرص على اندماج الأجيال … زوجين ، ثم أبناء وحفدة … فما فائدة اندماج الأجيال ؟ ما فائدة المعاصرة والمخالطة بين الجدِّ وحفيده ؟ نلاحظ أن الوليد الصغير يبدأ عنده الإدراك بمجرد أنْ تعملَ وسائل الإدراك عنده ، فيبدأ يلتقط مِمَّنْ حوله ويتعلَّم منهم … فإذا كان له أخوة أكبر منه تعلّم منهم مثلاً بابا … ماما … فإذا لم يكُنْ له إخوة نُعلّمه نحن هذه الكلمات . ولذلك نرى الطفل الثاني أذكى من الأول ، والثالث أذكى من الثاني … وهكذا لأنه يأخذ ممَّنْ قبله وممَّنْ حوله ، فيزداد بذلك إدراكه ، وتزداد خبراته ومعلوماته . ولنتصور أن هذا الابن أصبح أباً ، وجاء الحفيد الذي يعاصر الجيلين جيل الأب وجيل الجدِّ ، يشبّ الصغير في أحضانهما ، فتراه يأخذ من أبيه نشاطه في حركة الحياة وسَعْيه للرزق . في حين أنه يأخذ من جَدِّه القيم الدينية حيث الجد في البيت باستمرار بعد أن تقدَّم به العمر فأقبل على الطاعة والعبادة … فيسمع منه الصغير قراءة القرآن … متى يؤذن للظهر … يا ولد هات المصحف … يا ولد هات السجادة لأصلي ، إلى غير هذه من الكلمات التي يأخذ منها الصغير هذه القيم . إذن : الحفيد يلتقط لوناً من النشاط والحركة في جيل أبيه ، ويلتقط لوناً من القيم في جيل جَدِّه ولذلك فإن ابتعاد الأجيال يُسبِّب نقصاً في تكوين الأطفال ، والحق سبحانه يريد أنْ تلتحمَ الأجيال لتكتمل للطفل عناصر التربية بين القيم المعنوية والحركة والنشاط . وقوله تعالى : { وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ … } [ النحل : 72 ] . الطيبات في الرزق الذي جعله الله لاستبقاء الحياة ، وفي الزواج الذي جعله الله لاستبقاء النوع . ثم يقول تعالى : { أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ٱللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ } [ النحل : 72 ] . الباطل : هو الأصنام التي اتخذوها من دون الله . وفي الآية استفهام للتعجُّب والإنكار … كيف تكفرون بنعمة الله وقد خلقكم في البَدْء من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها . . وجعل لكم من أنفسكم أزواجاً … وجعل بينكم سكناً ومودة ورحمة ، ثم جعل لكم البنين والحفدة ، ورزقكم من نِعم الحياة ما يستبقي حياتكم ، ومن نِعَم الأزواج ما يستبقي نوعكم ، وجعلكم في نعمة ورفاهية … خلقكم من عَدَم ، وأمدَّكم من عُدم . أبعد ذلك كله تجحدون نعمته وتكفرونها ، وبدل أنْ تُقبِلوا عليه وتلتفتوا إليه تنصرفون إلى عبادة الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفع … وهل عملتْ لكم الأصنامُ شيئاً من ذلك ؟ ! هل أنعمتْ عليكم بنعمة من هذه النعم ؟ ! هذه الأصنام محتاجة إليكم … تأخذ منكم ولا تعطيكم … فهذا مائل يريد مَنْ يقيمه … وهذا كُسِر يحتاج لمن يُصلحه … انقل الإله … ضَع الإله في مكان كذا … الخ . ولذلك يقول تعالى في الآية بعدها : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ … } .