Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 75-75)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الحق سبحانه وتعالى يضرب لنا مثلاً له طرفان : الطرف الأول : عبد : أي مَوْلى ، وصفه بأنه مملوك التصرّف ، وأنه لا يقدر على شيء من العمل ذلك لأن العبد قد يكون عَبْداً ولكنه يعمل ، كمَنْ تسمح له بالعمل في التجارة مثلاً وهو عبد ، وهناك العبد المكاتب الذي يتفق مع سيده على مال يُؤدّيه إليه لينال حريته ، فيتركه سيده يعمل بحريته حتى يجمعَ المال المتفق عليه … فهذا عَبْد ، ومملوك ، ولا يقدر على شيء من السَّعْي والعمل . والطرف الثاني : سيد حُرٌّ ، رزقه الله وأعطاه رِزْقاً حَسناً أي : حلالاً طيّباً … ثم وفّقه الله للإنفاق منه بشتى أنواع الإنفاق : سِراً وجَهْراً … وهذه منزلة عالية : رِزْق من الله وصفه بأنه حلال طَيب لا شُبْهة فيه ، بعد ذلك وفّقه الله للإنفاق منه … كُلٌّ حَسْب ما يناسبه ، فمن الإنفاق ما يناسبه السِّرّ ، ومنه ما يُناسبه الجَهْر : { إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 271 ] . هذان هما طَرَفا المثَل المضروب لَنَا … ويترك لنا السياق القرآني الحكْم بينهما … وكأن الحق سبحانه يقول : أنا أرتضي حكمكم أنتم : هل يستوون ؟ والحق سبحانه لا يترك لنا الجواب ، إلا إذا كان الجواب سيأتي على وَفْق ما يريد … ولا جوابَ يُعقل لهذا السؤال إلا أن نقولَ : لا يستوون … وكأن الحق سبحانه جعلنا ننطق نحن بهذا الحكم . وقد ضرب الله هذا المثل لعبدة الأصنام ، الذين أكلوا رزق الله وعبدوا غيره ، فمثَّل الحق سبحانه الأصنامَ بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء . وضرب المثل الآخر للسيد الذي رزقه الله رزقاً حسناً ، فهو ينفق منه سِرّاً وجَهْراً ، ألم تَرَ إلى قوله تعالى في آية أخرى : { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } [ لقمان : 20 ] . ليُبين لهم خطأهم في الانصراف عن عبادة الله مع ما أعطاهم من رزق إلى عبادة الأصنام التي لا تعطيهم شيئاً . ومن هنا تتضح الحكمة في أن الله تعالى ترك الحكم بنفسه في هذا المثَل ، وأتى به على صورة سؤال ليأخذ الحكم من أفواههم ويشهدوا هم على أنفسهم ليقطع عليهم سبيل الإنكار والجدال . ولنا هنا وَقْفة مع قوله تعالى : { هَلْ يَسْتَوُونَ … } [ النحل : 75 ] . فالحديث عن مُثنّى ، وكان القياس أن يقول : هل يستويان ، فلماذا عدل عن المثنى إلى الجمع ؟ نقول : لأن المثل وإنْ ضُرِب بمفرد مقابل مفرد إلا أنه ينطبق على عديدين … مفرد شائع في عديد مملوكين ، وفي عديد من السادة أصحاب الرزق الحسن ، ذلك لِيُعمّم ضَرْب المثل . إذن : ليس في اختلاف الضمير هنا ما يتعارض وبلاغة القرآن الكريم ، بل هي دِقّة أداء لأن المتكلّم هو الحق سبحانه وتعالى . وكذلك في قوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا … } [ الحجرات : 9 ] . بعضهم يرى في الآية مَأخذاً ، حيث تتحدث عن المثنى ، ثم بضمير الجمع في اقْتَتَلُوا ، ثم تعود للمثنى في بَيْنَهُمَا . نقول لهؤلاء : لو تدبرتُم المعنى لَعرفتم أن ما تتخذونه مأخذاً ، وتعتبرونه اختلافاً في الأسلوب هو منتهى الدقة في التعبير القرآني … ذلك أن الحديث عن طائفتين : مُثنّى … نعم … فلو تقاتلا ، هل ستمسك كل طائفة سَيْفاً لتقاتل الأخرى ؟ لا … بل سيُمسِك كُلُّ جندي منها سَيْفاً … فالقتال هناك بالمجموع … مجموع كل طائفة لمجموع الطائفة الأخرى ، فناسب أن يقول : اقتتلوا لأن القتال حركة ذاتية من كُلّ فرد في الطائفتين . فإذا ما جاء وقت الصُلّح ، هل نصالح كل جندي من هذه على كل جندي من هذه ؟ لا … بل الصُّلْح شأْنُ السادة والزعماء والقادة لكل طائفة ، ففي الصُّلْح نعود للمثنى ، حيث ينوب هؤلاء عن طائفة ، وهؤلاء عن طائفة ، ويتم الصُّلْح بينهما . إذن : اختلاف الضمير هنا آية من آيات الإعجاز البياني لأن المتكلم هو الحق سبحانه وتعالى . وقوله : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ … } [ النحل : 75 ] . كأن الحق سبحانه يقول : الحمد لله أنْ وافقَ حُكْمكم ما أريد ، فقد نطقتُم أنتم وحكمتُمْ . { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ النحل : 75 ] . قوله : أكثرهم لا يعلمون يدل على أن الأقلية تعلم ، وهذا ما يُسمُّونه " صيانة الاحتمال " لأنه لما نزلَ القرآن الكريم كان هناك جماعة من الكفار ومن أهل الكتاب يُفكّرون في الإيمان واعتناق هذا الدين ، فلو نفى القرآن العلم عن الجميع فسوف يُصدَم هؤلاء ، وربما صرفهم عَمّا يُفكِّرون فيه من أمر الإيمان ، فالقرآن يصون الاحتمال في أن أُنَاساً منهم عندهم عِلْم ، ويرغبون في الإيمان . ثم يقول الحق سبحانه : { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً … } .