Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 78-78)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

مِنْ بُطُونِ أُمهَاتِكُم المراد الأرحام لأنها في البطون ، والمظروف في مظروف يعتبر مظروفاً ، كما لو قلت : في جيبي كذا من النقود أو في حافظتي كذا من النقود … العبارتان معناهما واحد . وأمهاتكم : جمع أم ، والقياس يقتضي أن نقول في جمع أُم : أُمَّات ولكنه قال : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النحل : 78 ] . بزيادة الهاء . وساعةَ يكون الجنين في بطن أمه تكون حياته حياة تبعية ، فكل أجهزته تابعة لأمه … فإذا شاء الله أن يولد جعل له حياة ذاتية مستقلة … وعند الولادة نرى أطباء التوليد يقولون : الجنين في الوضع الطبيعي أو في غير الوضع الطبيعي … فما معنى الوضع الطبيعي للجنين عند الولادة ؟ الوضع الطبيعي أن يكون رأس الجنين عند الولادة إلى أسفل ، هذا هو الوضع الطبيعي لأن الحق سبحانه أراد أن يُخرجه خَلْقاً آخر : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ … } [ المؤمنون : 14 ] . كأنه كان خلقاً لكنه كان تابعاً لأمه فيُخرجه الله خَلْقاً آخر مُسْتقلاً بذاته … فتكون الرأس إلى أسفل ، وهي أول ما ينزل من المولود ، وبمجرد نزوله تبدأ عملية التنفس . ومن هذه اللحظة ينفصل الجنين عن أمه ، وبالتنفس تكون له ذاتية ، فإذا ما تعسَّر خروج باقي جسمه فتكون له فرصة التنفس وهذا من لُطْف الله سبحانه لأن الجنين في هذه الحالة لا يختنق أثناء معالجة باقي جسمه . أما إذا حدث العكس فكان الرأس إلى أعلى ، ونزل الجنين بقدميْه ، فبمجرد نزول الرِّجْليْن ينفصل عن أمه ، ويحتاج إلى حياة ذاتية ويحتاج إلى تنفس ، فإذا ما تعسَّرت الولادة حدث اختناق ، ربما يؤدي إلى موت الجنين . العلم أَخْذ قضية من قضايا الكون مجزوم بها وعليها دليل وقوله تعالى : { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً … } [ النحل : 78 ] . ذلك لأن وسائل العلم والإدراك لم تعمل بَعْد ، فإذا أراد الله له أنْ يعلم يخلق له وسائل العلم ، وهي الحواس الخمس : السمع والبصر والشَّم واللمس والتذوّق ، هذه هي الحواس الظاهرة التي بها يكتسب الإنسان العلوم والمعارف ، وبها يُدرِك ما حوله . وإنْ كان العلم الحديث قد أظهر لنا بعض الحواسّ الأخرى ، ففي علم وظائف الأعضاء يقولون : إنك إذا حملتَ قطعتين من الحديد مثلاً فبأيّ حاسة تُميّز بينهما من حيث الثقل ؟ هذه لا تُعرف باللمس أو السمع أو البصر أو التذوّق أو الشّم … إذن : هناك حاسة جديدة تُميّز الثقَل هي حاسة العضَل . وكذلك تُوجَد حاسة البَيْن ، التي تتمكن بها من معرفة سُمْك القماش مثلا وأنت في محل الأقمشة ، حيث تفركُ القماش بين أصابعك ، وتستطيع أن تُميّز بين الرقيق والسَّميك . فالطفل المولود إذن لا يعلم شيئاً ، فهذا أمر طبيعي لأن وسائل العلم والإدراك لديه لم تُؤدِّ مهمتها بَعْد . وقوله تعالى : { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ … } [ النحل : 78 ] . وقد بيَّن لنا علماء وظائف الأعضاء أن هذا الترتيب القرآني للأعضاء هو الترتيب الطبيعيّ ، فالطفل بعد الولادة يسمع أولاً ، ثم بعد حوالي عشرة أيام يُبصر … وتستطيع تجربة ذلك ، فترى الطفل يفزع من الصوت العالي بعد أيام من ولادته ، ولكن إذا وضعت أصبعك أمام عينيه لا يطرف لأنه لم يَرَ بعد . ومن السمع والبصر - وهما السادة على جميع الحواس - تتكون المعلومات التي في الأفئدة ، هذا الترتيب القرآني الوجودي ، وهو الترتيب الطبيعي الذي وافق العلمَ الحديث . ونلاحظ في الآية إفراد السمع ، وجمع الأبصار والأفئدة : { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ … } [ النحل : 78 ] . فلماذا لم يأْتِ السمع جَمْعاً ؟ المتحدث هنا هو الحق سبحانه لذلك تأتي الألفاظ دقيقة معجزة … ولننظر لماذا السمع هنا مفرد ؟ فَرْقٌ بين السمع وغيره من الحواس ، فحين يوجد صوت في هذا المكان يسمعه الجميع ، فليس في الأذن ما يمنع السمع ، وليس عليها قُفْل نقفله إذا أردنا ألاَّ نسمع ، فكأن السمع واحد عند الجميع ، أما المرئي فمختلف لأننا لا ننظر جميعاً إلى شيء واحد … بل المرائي عندنا مختلفة فهذا ينظر للسقف ، وهذا ينظر للأعمدة … إلى آخره . إذن : المرائي لدينا مختلفة … كما أن للعين قفلاً طبيعياً يمكن إسْداله على العين فلا ترى ، فكأن الأبصار لدينا مختلفة متعددة . وكذلك الحال في الأفئدة ، جاءت جَمْعاً لأنها متعددة مختلفة ، فواحد يَعِي ويُدرك ، وآخر لا يعي ولا يدرك ، وقد يعي واحد أكثر من الآخر . إذن : إفراد السمع هنا آيةٌ من آيات الدقة في التعبير القرآني المعجز لأن المتكلمَ هو ربّ العزة سبحانه . ونلاحظ أيضاً تقديم السمع على باقي الحواس لأنه أول الإدراكات ويصاحب الإنسان منذ أنْ يُولدَ إلى أنْ يفارق الحياة ، ولا يغيب عنه حتى لو كان نائماً لأن بالسمع يتم الاستدعاء من النوم . وقد قُلْنا في قصة أهل الكهف أنهم ما كان لهم أن يناموا في سُبات عميق ثلاثمائة وتسع سنين إلا إذا حجب الله عنهم هذه الحاسة ، فلا تزعجهم الأصوات . فقال تعالى : { فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً } [ الكهف : 11 ] . أي : قُلْنا للأذن تعطّلي هذه المدة حتى لا تزعجهم أصوات الصحراء ، وتقلق مضاجعهم ، والله تعالى يريد لهم السُّبات والنوم العميق . وفي قوله تعالى : { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ … } [ النحل : 78 ] . هل توجد هذه الإدراكات بعد الإخراج الميلاد أم هي موجودة قبله ؟ … يجب أنْ نُفرّق بين السمع وآلته ، فقبل الإخراج تتكون للجنين آلات البصر والسمع والتذوّق وغيرها … لكنها آلات لا تعمل ، فالجنين في بطن أمه تابع لها ، وليست له حياة ذاتية ، فإذا ما نزل إلى الدنيا واستقلّ بحياته يجعل الله له هذه الآلات تعمل عملها . إذن : فمعنى : { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ . . } [ النحل : 78 ] . أي : جعل لكم الاستماع ، لا آلة السمع . وقوله : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] . تُوحي الآية بأن السمع والأبصار والأفئدة ستعطي لنا كثيراً من المعلومات الجديدة والإدراكات التي تنفعنا في حياتنا وفي مُقوّمات وجودنا ، وننفع بها غيرنا ، وهذه النعم تستحقّ منا الشكر . فكلما سمعتَ صَوْتاً أو حكمة تحمد الله أن جعل لك أُذناً تسمع ، وكلما أبصرتَ منظراً بديعاً تحمد الله أنْ جعلَ لك عيناً ترى ، وكلما شممتَ رائحة زكية تحمد الله أنْ جعل لك أنفاً تشمُّ … وهكذا تستوجب النعم شُكْر المنعم سبحانه . ولكي تقف على نِعَم الله عليك انظر إلى مَنْ حُرِموا منها ، وتأمّل حالك وحالهم ، وما أنتَ فيه من نعم الحياة ولذّاتها ، وما هُمْ فيه من حِرْمَان . ثم ينقلنا الحق سبحانه نقلة أخرى في قوله تعالى : { أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ … } .