Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 79-79)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فالحق سبحانه ينقلنا هنا إلى صورة أخرى من صُوَر الكون … بعد أن حدّثنا عن الإنسان وما حوله … فالإنسان قبل أنْ يخلقه الله في هذا الوجود أعدَّ له مُقوِّمات حياته ، فالشمس والقمر والنجوم والأرض والسماء والمياه والهواء ، كل هذه أشياء وُجِدتْ قبل الإنسان ، لِتُهيئ له الوجود في هذا الكون . والله سبحانه يريد منّا بعد أنْ كفلَ لنا استبقاء الحياة بالرزق ، واستبقاء النوع بالزواج والتكاثر ، يريد منّا إثراء عقائدنا بالنظر في ملكوت الله وما فيه من العجائب لنستدل على أنه سبحانه هندسَ كَوْنه هندسة بديعة متداخلة ، وأحكمه إحكاماً لا تصادم فيه . { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] . فالنظر إلى كَوْن الله الفسيح ، كم فيه من كواكب ونجوم وأجرام . كم هو مَلِيءٌ بالحركة والسكون والاستدارة . ومع ذلك لم يحدث فيه تصادم ، ولم تحدث منه مضرة أبداً في يوم من الأيام … الكون كله يسير بنظام دقيق وتناسق عجيب ولكي تتجلى لك هذه الحقيقة انظر إلى صَنْعة الإنسان ، كم فيها من تصادم وحوادث يروح ضحيتها الآلاف . هذا مَثلٌ مُشَاهَد للجميع ، الطير في السماء … ما الذي يُمسكها أنْ تقعَ على الأرض ؟ وكأن الحق سبحانه يجب أنْ يُلفتنا إلى قضية أكبر : { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ … } [ فاطر : 41 ] . فعلينا أن نُصدِّق هذه القضية … فنحن لا ندرك بأعيننا جرْم الأرض ، ولا جرْم الشمس والنجوم والكواكب … نحن لا نقدر على معرفة كل مَا في الكون … إذن : يجب علينا أن نُصدّق قوْل ربنا ولا نجادل فيه . وإليكم هذا المثل الذي تشاهدونه كل يوم : { أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ … } [ النحل : 79 ] . إياك أنْ تقول إنها رَفْرفة الأجنحة ، فنحن نرى الطائر يُثبّت أجنحته في الهواء ، ومع ذلك لا يقع إلى الأرض ، فهناك إذن ما يمسكه من الوقوع لذلك قال تعالى في آية أخرى : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ … } [ الملك : 19 ] . أي : أنها في حالة بَسْط الأجنحة ، وفي حالة قبْضِها تظل مُعلّقة لا تسقط . وكذلك نجد من الطيور ما له أجنحة طويلة ، لكنه لا يطير مثل الأوز وغيره من الطيور . إذن : ليست المسألة مسألة أجنحة ، بل هي آية من آيات الله تمسك هذا الطير في جَوِّ السماء … فتراه حُراً طليقاً لا يجذبه شيء إلى الأرض ، ولا يجذبه شيء إلى السماء ، بل هو حُرٌّ يرتفع إنْ أراد الارتفاع ، وينزل إنْ أراد النزول . فهذه آية مُحسَّة لنستدلّ بها على قدرة الله غير المحسَّة إلا بإخبار الله عنها ، فإذا ما قال سبحانه : { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ … } [ فاطر : 41 ] . آمنا وصَدّقنا . وقوله تعالى : { فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ … } [ النحل : 79 ] . أي : في الهواء المحيط بالأرض ، والمتأمل في الكون يجد أن الهواء هو العامل الأساسي في ثبات الأشياء في الكون ، فالجبال والعمارات وغيرها … ما الذي يمسكها أنْ تقع ؟ إياك أن تظن أنه الأسمنت والحديد وهندسة البناء … لا … بل يمسكها الهواء الذي يحيط بها من كل جانب ، بدليل أنك لو فَرَّغتَ جانباً منها من الهواء لانهارتْ فوراً نحو هذا الجانب لأن للهواء ضغطاً ، فإذا ما فرَّغْتَ جانباً منها قَلَّ فيه الضغط فانهارتْ . فالهواء - إذن - هو الضابط لهذه المسألة ، وبالهواء يتوازن الطير في السماء ، ويسير كما يهوى ، ويتحرك كما يحب . ثم يقول تعالى : { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ النحل : 79 ] . أي : أن الطير الذي يطير في السماء فيه آيات أي عجائب ، عجائب صَنْعة وعجائب خَلْق ، يجب أنْ تتفكَّرُوا فيها وتعتبروا بها . ولكي نقف على هذه الآية في الطير نرى ما حدث لأول إنسان حاول الطيران … إنه العربي عباس بن فرناس ، أول مَنْ حاول الطيران في الأندلس ، فعمل لنفسه جناحين ، وألقى بنفسه من مكان مرتفع … فماذا حدث لأول طائر بشري ؟ طار مسافة قصيرة ، ثم هبط على مُؤخرته فكُسرت لأنه نسي أن المسألة ليست مجرد الطيران ، فهناك الهبوط الذي نسي الاستعداد له ، وفاته أن يعمل له زِمكّي ، وهو الذيل الذي يحفظ التوازن عند الهبوط . وكذلك الذين يصنعون الطائرات كم تتكلف ؟ وكم فيها من أجهزة ومُعِدات قياس وانضباط ؟ وبعد ذلك تحتاج لقائد يقودها أو مُوجّه يُوجّهها ، وحينما أرادوا صناعة الطائرة جعلوها على شكل الطير في السماء له جناحان ومقدمة وذيل ، ومع ذلك ماذا يحدث لو تعطلّ محركها … أو اختلّ توازنها ؟ ! إذن : الطير في السماء آية تستحق النظر والتدبُّر لنعلمَ منها قدرة الخالق سبحانه . ويقول تعالى : { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ النحل : 79 ] . يؤمنون بوجود واجب الوجود ، يؤمنون بحكمته ودقَّة صنعه ، وأنها لا مثيلَ لها من صنعة البشر مهما بلغتْ من الدقة والإحكام . ثم يقول الحق سبحانه : { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن … } .