Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 80-80)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً … } [ النحل : 80 ] . كلمة سكن مأخوذة من السكون ، والسكون ضد الحركة ، فالبيت نُسمّيه سكناً لأن الإنسان يلجأ إليه ليرتاح فيه من حركة الحياة خارج البيت ، إذن : في الخارج حركة ، وفي البيت سكن . والسكن قد يكون مادياً كالبيت وهو سكن القالب ، وقد يكون معنوياً ، كما قال تعالى في حَقِّ الأزواج : { خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا … } [ الروم : 21 ] . فالزوجة سكَنٌ معنويٌّ لزوجها ، وهذا يُسمّونه سكن القلب . فإنْ قال قائل : { مِّن بُيُوتِكُمْ … } [ النحل : 80 ] . يعني : نحن الذين صنعناها وأقمناها . فكيف جعلها الله لنا ؟ . نقول : وأنت كيف صنعتها ؟ ومِمَ بنيْتها ؟ صنعتَها من غابٍ أو خشب ، أو بنيْتها من طين أو طوب … كل هذه المواد من مادة الأرض من عطاء الله لك ، وكذلك العقل الذي يُفكّر ويرسم ، والقوة التي تبني وتُشيّد كلها من الله . إذن : { جَعَلَ لَكُمْ } إما أنْ يكون جَعْلاً مباشراً ، وإما أنْ يكون غير مباشر … فالله سبحانه جعل لنا هذه المواد … هذا جَعْل مباشر ، وأعاننا وقوّانا على البناء … هذا جَعْلٌ غير مباشر . لكن في أيّ الأماكن تُبنى البيوت ؟ البيوت لا تُبنَى إلا في أماكن الاستقرار ، التي تتوفّر لها مُقوّمات الحياة … فقبل أن نُنظّم مدينة سكنية نبحث أولاً عن مُقوّمات الاستقرار فيها من مأكل ومشرب ومرافق وخدمات ومياه وصرف … إلى آخره . فإن وجدت هذه المقوّمات فلا مانعَ من البناء هنا … فإذا لم توجد المرافق في الصحراء ومناطق البدو ، هنا لا يناسبها البيوت والبناء الدائم ، بل يناسبها : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ … } [ النحل : 80 ] . فنرى أهل البدو يتخذون من الجلود بُيُوتاً مثل الخيمة والفسطاط … حيث نراهم كثيري التنقُّل يبتغون مواطن الكلأ والعشب ، ويرحلون طَلباً للمرعى والماء ، وهكذا حياتُهم دائمة التنقّل من مكان لآخر … فيناسبهم بيت من جلد أو من صوف أو من وَبَر خفيف الحَمْل ، يضعونه أيْنما حَطُّوا رحالهم ، ويرفعونه أينما ساروا … والظّعْن هو التنقُّل من مكان لآخر . إذن : كلمة سكن تفيد الاستقرار ، وتُوفِّر كل مُقوِّمات الحياة ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول لآدم : { ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ … } [ البقرة : 35 ] . أي : المكان الذي فيه راحتكم ، وفيه نعيمكم ، فحدّد له مكان إقامة وسكَن … ومكان الإقامة هذا قد يكون عَامّاً ، وقد يكون خاصاً ، مثل لو قُلْت : أسكن الإسكندرية … هذا سكَنٌ عام ، فلو أردتَ السكن الحقيقي الخاص بك لَقُلْتَ : أسكن في شارع كذا ، وفي عمارة رقم كذا ، وفي شقة رقم كذا ، وربما كان لك حجرة خاصة من الشقة هذه . إذن : هذا سكَنٌ خاص بك . . سكنُك الحقيقي الذي تشعر فيه بالهدوء والراحة والخصوصية ، فالسكن يحتاج إلى استقرار ذاتيٍّ لا يشاركك فيه أحد ولذلك نرى بعض سكان العمارات يشكُون من الإزعاج والضوضاء ، ويتمنوْنَ أن يعيشوا في بيوت مستقلة تُحقّق لهم الراحة الكافية التي لا يضايقهم فيها أحد . إذن : حينما ننظر إلى السكون … إلى السكن ، نحتاج المكان الضيق الذي يُحقّق لنا الخصوصية التامة التي تصل إلى حجرة ، مجرد حجرة ، ولكنها تعني السكن الحقيقي الخاص بي ، وقد تصل الخصوصية أنْ نجعلَ لكل ولد من الأولاد سريراً خاصاً به في نفس الحجرة . فإذا ما نظرنا إلى الحركة في الحياة وجدنا الإنسان على العكس يطلب السعة لأن الحركة تقتضي السعة في المكان ، فمَنْ كان عنده مزرعة يطلب عزبة ، ومَنْ كان عنده عزبة يتمنى ثانية وثالثة وهكذا لأن حركة الحياة تحتاج مجالاً واسعاً فسيحاً . هذا عن النوع الأول ، وهو السكن المادي سكن القالب ، وهو من أعظم نِعَم الله على عباده … أن يكون لهم سكَن يأوون إليه ، ويرتاحون فيه من عناء وحركة الحياة . ولذلك حينما أراد الحق سبحانه أن يُعذِّب بني إسرائيل ، أشاع سكنهم في الأرض كلها ، وحرمهم من نعمة السكن الحقيقي الخاص ، فقال تعالى : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ … } [ الإسراء : 104 ] . فالأرض هي المكان العام الذي يسكن فيه كل الناس … فليس لهم بلد تجمعهم ، بل بدَّدهم الله في الأرض ولم يجعل لهم وطناً ، كما قال في آية أخرى : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً … } [ الأعراف : 168 ] . حتى في البلاد التي يعيشون فيها تراهم معزولين عن الناس في أماكن خاصة بهم لا يذوبون في غيرهم ، وهكذا سكنوا الأرض ولم تحدد لهم بلد . أما النوع الثاني من السكن ، وهو السكن المعنوي أو سكن القلب ، فهو سكن الزوج إلى زوجته الصالحة التي تُخفّف عنه عناء الحياة وهمومها ، تبتسم في وجهه إنْ كان مسروراً وتُهدِّىء من غضبه إنْ كان مُغْضَباً ، تحتويه بما لديها من حُب وحنان وإخلاص … هذا هو السكن المعنوي ، سكن القلب . وقوله : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ } [ النحل : 80 ] . الأصواف للغنم ، والأوبار للإبل ، والشعر للماعز … فما الفرْق بين هذه الثلاث في الاستعمال ؟ يستعمل الناس كلاً من الصوف والوبر لأن الشُّعيرات فيها دقيقة جداً يمكن نَدْفها وغَزْلها والانتفاع بها في الفُرش والأبسطة والألحفة والملابس وغيرها مما يحتاجه الناس . أما شعر الماعز فالشعيرات فيه ثخينة لا يمكن نَدْفها أو غَزْلها ، فلا يمكن الانتفاع به في هذه المنسوجات ، وقوله تعالى : { أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ } [ النحل : 80 ] . الأثاث : هو ما يوجد في البيت مما تتطلبه حركة الحياة كالأبسطة والمفارش والملابس والستائر . والمتاع : هو ما يُستمتع ويُنتفع به … والفرْق بينهما أن الأثاث قد يكون ثابتاً لا يتغير كثيراً ، أما المتاع فقد يتغير حسب الحاجة . فأنت مثلاً قد تحتاج إلى تغيير التلفاز القديم لتأتي بآخر حديث ، مُلوّن مثلاً ، لكن قلّما تُغير الثلاجة أو الغسالة مثلاً . وقوله : { إِلَىٰ حِينٍ } [ النحل : 80 ] . لأن الإنسان قد يغتر حين يستوفي متطلبات حياته ، وقد تلهيه هذه النعم عن مطلوب المنعم سبحانه ، فينشغل بالنعمة التي هو فيها عن المنعم الذي أنعم عليه بها … فتأتي هذه الآية مُحذّرة . إياك أنْ تغترّ بالمتاع والأثاث لأنها متاع إلى حين … متاعٌ موقوت لا يدوم ، ومهما استوفيت حظّك منها في الدنيا فإنها صائرة إلى أمرين : إما أن تفوتها بالموت ، وإما أنْ تفوتَك بالفقر والحاجة … إذن : هي ذاهبة ذاهبة … فتذكّروا دائماً قوله تعالى : { إِلَىٰ حِينٍ } [ النحل : 80 ] . فمتاع النعمة موقوت ، لكن متاع المنعِم سبحانه خالد . ثم يقول الحق سبحانه : { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ … } .