Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 90-90)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
للحق تبارك وتعالى في هذه الآية ثلاثة أوامر : العدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القُرْبى . وثلاثة نَواهٍ : عن الفحشاء والمنكر والبغي . ولما نزلت هذه الآية قال ابن مسعود : أجمعُ آيات القرآن للخير هذه الآية لأنها جمعتْ كل الفضائل التي يمكن أن تكون في القرآن الكريم . ولذلك سيدنا عثمان بن مظعون كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب له أن يُسلِم ، وكان يعرض عليه الإسلام دائماً ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحب عَرْض الإسلام على أحد إلا إذا كان يرى فيه مخايل وشِيَماً تحسن في الإسلام . وكأنه - صلى الله عليه وسلم - ضَنَّ بهذه المخايل أن تكون في غير مسلم ، لذلك كان حريصاً على إسلامه وكثيراً ما يعرضه عليه ، إلا أن سيدنا عثمان بن مظعون تريَّث في الأمر ، إلى أن جلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم في مجلس ، فرآه رفع بصره إلى السماء ثم تنبه ، فقال له ابن مظعون : ما حدث يا رسول الله ؟ فقال : إن جبريل - عليه السلام - قد نزل عليَّ الساعة بقول الله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ النحل : 90 ] . قال ابن مظعون - رضي الله عنه : فاستقر حبُّ الإيمان في قلبي بهذه الآية الجامعة لكل خصال الخير . ثم ذهب فأخبر أبا طالب ، فلما سمع أبو طالب ما قاله ابن مظعون في هذه الآية قال : يا معشر قريش آمِنُوا بالذي جاء به محمد ، فإنه قد جاءكم بأحسن الأخلاق . " ويُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرض نفسه على قبائل العرب ، وكان معه أبو بكر وعلي ، قال علي : فإذا بمجلس عليه وقار ومَهَابة ، فأقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فقام إليه مقرون بن عمرو وكان من شيبان ابن ثعلبة فقال : إلى أي شيء تدعونا يا أخا قريش ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } . فقال مقرون : إنك دعوت إلى مكارم الأخلاق وأحسن الأعمال ، أفِكتْ قريش إن خاصمتْك وظاهرتْ عليك " . أخذ عثمان بن مظعون هذه الآية ونقلها إلى عكرمة بن أبي جهل ، فأخذها عكرمة ونقلها إلى الوليد بن المغيرة ، وقال له : إن آية نزلت على محمد تقول كذا وكذا ، فأفكر الوليد بن المغيرة - أي : فكَّر فيما سمع - وقال : والله إن له لحلاوةً ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو ولا يُعْلَى عليه ، وما هو بقول بشر . ومع شهادته هذه إلا أنه لم يؤمن ، فقالوا : حَسْبُه أنه شهد للقرآن وهو كافر . وهكذا دخلتْ هذه الآيةُ قلوبَ هؤلاء القوم ، واستقرتْ في أفئدتهم لأنها آيةٌ جامعةٌ مانعةٌ ، دعَتْ لكل خير ، ونَهتْ عن كل شر . قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ … } [ النحل : 90 ] . ما العدل ؟ العدل هو الإنصاف والمساواة وعدم الميْل لأنه لا يكون إلا بين شيئين متناقضين ، لذلك سُمِّي الحاكم العادل مُنْصِفاً لأنه إذا مَثَلَ الخصمان أمامه جعل لكل منهما نصفَ تكوينه ، وكأنه قسَم نفسه نصفين لا يميل لأحدهما ولا قَيْد شعرة ، هذا هو الإنصاف . ومن أجل الإنصاف جُعِل الميزان ، والميزان تختلف دِقّته حَسْب الموزون ، فحساسية ميزان البُرّ غير حساسية ميزان الجواهر مثلاً ، وتتناهى دقّة الميزان عند أصحاب صناعة العقاقير الطبية ، حيث أقلّ زيادة في الميزان يمكن أن تحوّل الدواء إلى سُمٍّ ، وقد شاهدنا تطوراً كبيراً في الموازين ، حتى أصبحنا نزن أقلّ ما يمكن تصوّره . والعدل دائر في كل أقضية الحياة من القمة في شهادة ألا إله إلا الله إلى إماطة الأذى عن الطريق ، فالعدل مطلوب في أمور التكليف كلها ، في الأمور العقدية التي هي عمل القلب ، وكذلك مطلوب في الأمور العملية التي هي أعمال الجوارح في حركة الحياة . فكيف يكون العدل في الأمور العقدية ؟ لو نظرنا إلى معتقدات الكفار لوجدنا بعضهم يقول بعدم وجود إله في الكون ، فأنكروا وجوده سبحانه مطلقاً ، وآخرون يقولون بتعدُّد الآلهة ، هكذا تناقضتْ الأقوال وتباعدتْ الآراء ، فجاء العدل في الإسلام ، فالإله واحد لا شريك له ، مُنزّه عَمّا يُشبه الحوادث ، كما وقف موقفَ العدل في صفاته سبحانه وتعالى . فلله سَمْع ، ولكن ليس كأسماع المحدثات ، لا ننفي عنه سبحانه مثل هذه الصفات فنكون من المعطّلة ، ولا نُشبّهه سبحانه بغيره فنكون من المشبِّهة ، بل نقول : ليس كمثله شيء ، ونقف موقف العَدْل والوسطية . كذلك من الأمور العقدية التي تجلَّى فيها عدل الإسلام قضية الجبر والاختيار ، حيث اختار موقفاً وسطاً بين مَنْ يقول إن الإنسان يفعل أفعاله باختياره دون دَخْل لله سبحانه في أعمال العبد ولذلك رتَّبَ عليها ثواباً وعقاباً . ومن يقول : لا بل كل الأعمال من الله والعبد مُجْبَر عليها . فيأتي الإسلام بالعدالة والوسطية في هذه القضية فيقول : بل الإنسان يعمل أعماله الاختيارية بالقوة التي خلقها الله فيه للاختيار . وفي التشريع والأحكام حدث تبايُن كبير بين شريعة موسى عليه السلام وبين شريعة عيسى عليه السلام - في القصاص مثلاً : في شريعة موسى حيث طغتْ المادية على بني إسرائيل حتى قالوا لموسى عليه السلام : { أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] . فهم لا يفهمون الغيب ولا يقتنعون به ، فكان المناسب لهم القِصَاص ولا بُدَّ ، ولو تركهم الحق سبحانه لَكَثُر فيهم القتل ، فهم لا ينتهون إلا بهذا الحُكْم الرادع : مَنْ قتَل يُقتلُ ، والقتل أنْفى للقتل . وقد تعدّى بنو إسرائيل في طلبهم رؤية الله ، فكوْنُك ترى الإله تناقض في الألوهية لأنك حين تراه عينُك فقد حددّتَه في حيّز . إذن : كونه لا يرى عَيْن الكمال فيه سبحانه وتعالى . وكيف نطمع في رؤيته جَلَّ وعلاَ ، ونحن لا نستطيع رؤية حتى بعض مخلوقاته ، فالروح التي بين جَنْبي كل مِنّا ماذا نعرف عن طبيعتها وعن مكانها في الجسم ، وبها نتحرك ونزاول أعمالنا ، وبها نفكّر ، وبها نعيش ، أين هي ؟ ! فإذا ما فارقتْ الروح الجسم وأخذ الله سره تحول إلى جيفة يسارع الناس في مواراتها التراب . هل رأيت هذه الروح ؟ هل سمعتها ؟ هل أدركتها بأي حاسّة من حواسِّك ؟ ! فإذا كانت الروح وهي مخلوقة لله يعجز العقل عن إدراكها ، فكيف بمَنْ خلق هذه الروح ؟ فمن عظمته سبحانه أنه لا تُدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار . كذلك هناك أشياء مما يتطلبها الدين كالحق مثلاً ، وهو معنًى من المعاني التي يدّعيها كل الناس ، ويطلبون العمل بها ، هذا الحق ما شَكْله ؟ ما لونه ؟ طويل أم قصير ؟ ! فإذا كُنّا لا نستطيع أن نتصوّر الحق وهو مخلوق لله سبحانه ، فكيف نتصور الله ونطمع في رؤيته ؟ ! ومن إسراف بني إسرائيل في المادية أن جعلوا لله تعالى في التلمود جماعة من النقباء ، وجعلوه سبحانه قاعداً على صخرة يُدلي رِجْليْه في قصعة من المرمر ، ثم أتى حوت … الخ … سبحان الله ألهذا الحدِّ وصلتْ بهم المادية ؟ ومن هنا كان الكون في حاجة إلى طاقة روحية ، تكون هي أيضاً مُسرفة في الروحانية ليحدث نوع من التوازن في الكون ، فجاءت شريعة عيسى - عليه السلام - بعد مادية مُفْرطة وإسراف في الموسَوية ، فكيف يكون حُكْم القصاص فيها وهي تهدف إلى أنْ تسموَ بروحانيات الناس ؟ جاءت شريعة عيسى عليه السلام تُهدّىء الموقف إذا حدث قتل ، فيكفي أن قُتِل واحد ولنستبقي الآخر ولا نثير ضجّة ، ونهيج الأحقاد والترة بين الناس ، فدَعَتْ هذه الشريعة إلى العفو عن القاتل . ثم جاء الإسلام ووقف موقف العدل والوسطية في هذا الحكم ، فأقرّ القصاص ودعا إلى العفو ، فأعطى وليَّ المقتول حَقّ القصاص ، ودعاه في نفس الوقت إلى العفو في قوله تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ … } [ البقرة : 178 ] . ونلاحظ هنا أن القرآن جعلهم إخوة لِيُرقّق القلوب ويُزيل الضغائن . وللقصاص في الإسلام حكَم عالية ، فليس الهدف منه أن يُضخّم هذه الجريمة ، بل يهدف إلى حفظ حياة الناس كما قال تعالى : { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ … } [ البقرة : 179 ] . فمن أراد أنْ يحافظَ على حياته فلا يُهدد حياة الآخرين . وحينما يُعطي ربُّنا تبارك وتعالى حقَّ القصاص لوليّ المقتول ويُمكِّنه منه تبردُ ناره ، وتهدأ ثورته ، فيفكر في العفو وهو قادر على الانتقام ، وهكذا ينزع هذا الحكمُ الغِلَّ من الصدور ويُطفِىء نار الثأر بين الناس . ولذلك نرى في بعض البلاد التي تنتشر فيها عملية الثأر يأتي القاتل حاملاً كفنه على يده إلى وليّ المقتول ، ويضع نفسه بين يديه مُعترفاً بجريمته : هاأنا بين يديْك اقتلني وهذا كفنِي . ما حدث ذلك أبداً إلا وعفا صاحب الحق ووليّ الدم ، وهذا هو العدل الذي جاء به الإسلام ، دين الوسطية والاعتدال . هذا العفو من وليّ الدم أداةُ بِنَاء ، ووسيلة محبة ، فحين نعطيه حَقّ القصاص ، ثم هو يعفو ، فقد أصبحت حياة القاتل هبةً من وليّ الدم ، فكأنه استأثره واستبقاه بعفوه عنه ، وهذا جميل يحفظه أهل القاتل ، ويقولون : هذا حَقَن دم ابننا . موقف آخر لعدالة الإسلام ووسطيته نراها في حُكْم الحيض مثلاً ، ففي شريعة موسى - عليه السلام - يُخرج الزوج زوجته من البيت طوال مدة الحيض لا يجمعهما بيت واحد . وفي شريعة عيسى - عليه السلام - لا مانع من وجودها في البيت ، ولا مانع من معاشرتها والاستمتاع بها . فجاء الإسلام بالعدل في هذه القضية فقال : تبقى المرأة الحائض في بيتها لا تخرج منه ، ولكن لا يقربها الزوج طوال مدة الحيض ، فقال تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ } [ البقرة : 222 ] . وكذلك لو أخذنا الناحية الاقتصادية في حياتنا ، والتي هي عصب الحياة ، والتي بها يتم استبقاء الحياة بالطعام والشراب والملْبس وغيره ، وبها يتم استبقاء النوع بالزواج ، وكُل هذا يحتاج إلى حركة إنتاج ، وإلى حركة استهلاك ، وبالإنتاج والاستهلاك تستمر الحياة ، ولو توقف أحدهما لحدث في المجتمع بطالة وفساد . وبناء عليه وزّع الحق سبحانه وتعالى المواهب بين العباد ، فما أعرفه أنا أخدم به الكل ، وما يعرفه الكل يَخدمني به ، وهكذا تستمر حركة الحياة . والكون الذي تعيش فيه أنت لك فيه مصالح وتُراودك فيه آمال ، فإنْ شاركتَ في حركة الحياة واكتسبتَ المال الذي هو عصبُ الحياة فعليك أن تُوازنَ بين متطلباتك العاجلة وآمالك في المستقبل . فلو أنفقتَ جميع ما اكتسبت في نفقاتك الحاضرة فقد ضيَّعتَ على نفسك تحقيق الآمال في المستقبل ، فلن تجد ما تبني به بيتاً مثلاً أو تشتري به سيارة ، أو ترتقي بمستواك ببعض كماليات الحياة . وهذا ما نسميه الإسراف . وفي المقابل ، كما لا يليق بك الإسراف حتى لا يبقى عندك شيء ، وكذلك لا يليق بك التقتير والبخل والإمساك فتكنز كل ما تكتسب ، ولا تنفق إلا ما يُمسِك الرمَق لأنك في هذه الحالة لن تساهم في عملية الاستهلاك ، فتكون سبباً في بطالة المجتمع وفساد حاله . وقد عالج القرآن هذه القضية علاجاً دقيقاً في قوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } [ الإسراء : 29 ] . أي : لا تُمسك يدك بُخْلاً وتقتيراً ، فتكون ملُوماً من أهلك وأولادك ، ومن الدنيا من حولك ، فيكرهك الجميع ، وكذلك لا تبسط يدك بالإنفاق بَسْطاً يصل إلى حَدّ الإسراف والتبذير ، فيفوتك تحقيق الآمال وتتحسَّر حينما ترى المقتصد قد حقَّق ما لم تستطع أنت تحقيقه من آمال الحياة ، وترقّى هو في حياته وأنت مُعْدم لا تملك شيئاً ، فكان عليك أن تدّخر جُزْءاً من كَسْبك يمكنك أن ترتقي به حينما تريد . ولذلك قال تعالى : { إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُوۤاْ إِخْوَانَ ٱلشَّيَاطِينِ } [ الإسراء : 27 ] . وقال : { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] . إذن : فالعَدْل أمر دائر في كل حركات التكليف ، سواء كان تكليفاً عَقَدياً ، أو تكليفاً بواسطة الأعمال في حركة الحياة ، فالأمر قائم على الوسطية والاعتدال ، ومن هنا قالوا : خَيْر الأمور الوسط . وقوله : { وَٱلإحْسَانِ … } [ النحل : 90 ] . ما الإحسان ؟ إذا كان العدل أن تأخذ حقَّك ، وأنْ تُعاقب بمثل ما عُوقبت به كما قال تعالى : { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ … } [ البقرة : 194 ] . وقوله : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ … } [ النحل : 126 ] . فالإحسان أنْ تتركَ هذا الحق ، وأنْ تتنازلَ عنه ابتغاءَ وجه الله ، عملاً بقوله تعالى : { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 134 ] . والناس في الإحسان على مراتب مختلفة حسب قدرة الإنسان واستِعداده الخُلقي . وأول هذه المراتب كظم الغيظ ، من كَظْم القِرْبة المملوءة ، فالإنسان يكظم غَيْظه في نفسه ، ويحتمل ما يَعتلج بداخله على المذنب دون أن يتعدَّى ذلك إلى الانفعال والردّ بالمثل ، ولكنه يظل يعاني ألم الغيظ بداخله وتتأجج ناره في قلبه . لذلك يحسُن الترقي إلى المرتبة الأعلى ، وهي مرتبة العفو ، فيأتي الإنسان ويقول : لماذا أدَعْ نفسي فريسة لهذا الغيظ ؟ لماذا أشغل به نفسي ، وأُقَاسي ألمه ومرارته ؟ فيميل إلى أنْ يُريح نفسه ويقتلع جذور الغيظ من قلبه ، فيعفو عمَّنْ أساء إليه ، ويُخرِج المسألة كلها من قلبه . فإنِ ارتقى الإنسان في العفو ، سعى إلى المرتبة الثالثة ، وهي مرتبة أن تُحسن إلى مَنْ أساء إليك ، وتزيد عما فرضَ لك حيث تنازلتَ عن الردِّ بالمثل ، وارتقيتَ إلى درجة العارفين بالله ، فالذي اعتدى اعتدى بقدرته ، وانتقم بما يناسبه ، والذي ترقّى في درجات الإحسان ترك الأمر لقدرة الله تعالى ، وأيْن قدرتُك من قدرة ربك سبحانه وتعالى ؟ إذن : فالإحسان اجمل بالمؤمن ، وأفضل من الانتقام . لكن كيف يصل الأمر إلى أنْ تعفوَ عمَّنْ أساء ، بل إلى أنْ تُحسِن إليه ؟ نقول : هَبْ أن لك ولديْن اعتدى أحدهما على الآخر وأساء إليه ، فماذا يكون موقفك منهما ؟ وإلى أيّهما يميل قلبك ؟ لا شكَّ أن القلب هنا يميل إلى المعتدى عليه ، وقد يتعدَّى الأمر إلى أنْ تُرضيه بهدية وتُريه من حنانك وألطافك ما يُذهِب عنه ما يُعاني ، والسبب في ذلك إساءة أخيه له فهي التي عطفَتْ قلبك إليه ، وعادتْ عليه بالهدايا والألطاف . إذن : من الطبيعي أنْ يُحسِنَ المعتَدى عليه إلى المعتدِي ، وأنْ يشكرَ له أنْ تسبَّب له في هذه النعم ولذلك يقول الحسن البصري - رحمه الله : أفلا أُحسِن لمن جعل الله في جانبي ؟ فالإحسان : أنْ تصنع فوق ما فرض الله عليك ، بشرط أن يكونَ من جنس ما فرض الله عليك ، ومن جنس ما تعبَّدنا الله به ، فمثلاً تعبدنا الله بخمس صلوات في اليوم والليلة فلا مانعَ من الزيادة عليها من جنسها ، وكذلك الأمر في الزكاة والصيام والحج . والإحسان هنا يكون بزيادة ما فرضه الله علينا . وقد يكون الإحسان في الكيفية دون زيادة في العمل ، فلا أزيد مثلاً عن خمس صلوات ، ولكن أُحسِن ما أنا بصدده من الفرْض ، وأُتقِن ما أنا فيه من العمل ، وأُخلِص في ذلك عملاً بحديث جبريل عليه السلام - حينما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان ، فقال : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكُنْ تراه فإنه يراك " . فعليك أن تستحضر في عبادتك ربك عز وجل بجلاله وجماله وكماله ، فإنْ لم تصل إلى هذه المرتبة فلا أقلّ من أن تؤمن أنه يراك ويطلع عليك ، وهذه كافية لأنْ تُعطي العبادة حقّها ولا تسرق منها ، فاللصُّ لا يجرؤ على سرقة البيت وهو يعلم أن صاحبه يراه ، فإذا كنا نفعل ذلك مع بعضنا البعض فيخشى أحدنا نظر الآخرين ، أيليق بنا أنْ نتجرأ على الله ونحن نعلم نظره إلينا ؟ ! ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى في الحديث القدسي : " يا عبادي ، إنْ كنتم تعتقدون أَنِّي لا أراكم فالخلَل في إيمانكم ، وإنْ كنتم تعتقدون أني أراكم ، فَلِمَ جعلتموني أهونَ الناظرين إليكم ؟ " . وقال بعضهم في معنى العدل والإحسان : العدل : أن تستوي السريرة مع العلانية . والإحسان : أن تعلو السريرة وتكون أفضل من العلانية . والمنكر : إنْ علَتْ العلانية على السريرة . وقوله تعالى : { وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ } [ النحل : 90 ] . إيتاء : أي إعطاء . قالوا : لأن العالم حَلَقات مقترنة ، فكل قادر حوله أقرباء ضُعَفاء محتاجون ، فلو أعطاهم من خيْره ، وأفاض عليهم مِمّا أفاض الله عليه لَعَمَّ الخير كل المجتمع ، وما وجدنا مُعْوزاً محتاجاً ذلك لأن هذه الدوائر ستشمل المجتمع كله ، كل قادر يُعطي مَنْ حوله . وقد تتداخل هذه الدوائر فتلتحم العطاءات وتتكامل ، فلا نرى في مجتمعنا فقيراً ، وقد حثتْ الآية على القريب ، وحنَّنَتْ عليه القلوب لأن البعيد عنك قريب لغيرك ، وداخل في دائرة عطاء أخرى . وقد يكون الفقير قريباً لعدة أطراف يأخذ من هذا ويأخذ من هذا ، وبذلك تتكامل الحياة وتستطرق موارد العيش لكل الناس . وقالوا : المراد هنا قرابة النبي صلى الله عليه وسلم لأن قرابة النبي صلى الله عليه وسلم حرَّمتْ عليهم الزكاة التي أُحِلَّت لغيرهم من الفقراء ، وأصبح لهم مَيْزة يمتازون بها عن قرابة الرسول ، ولا يليق بنا أن نجعل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة إلى الزكاة ، وإنْ كان أقرباؤكم أصحابَ رحم ، فلا تنسوا أن قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أَوْلى من أرحامكم ، كما قال تعالى : { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ … } [ الأحزاب : 6 ] . هذه هي مجموعة الأوامر الواردة في هذه الآية ، وإنَّ مجتمعاً يُنفِّذ مثل هذه الأوامر ويتحلَّى بها أفراده ، مجتمع ترتقي فيه الاستعدادات الخُلقية ، إلى أن يترك الإنسان العقوبة والانتقام ويتعالى عن الاعتداء إلى العفو ، بل إلى الإحسان ، مجتمع تعمُّ فيه النعمة ، ويستطرق فيه الخير إلى كل إنسان . إن مجتمعاً فيه هذه الصفات لَمجتمعٌ سعيد آمِنٌ يسوده الحب والإيمان والإحسان ، إنه لجدير بالصدارة بين أمم الأرض كلها . وقوله : { وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ … } [ النحل : 90 ] . وهذه مجموعة من النواهي تمثل مع الأوامر السابقة منهجاً قرآنياً قويماً يضمن سلامة المجتمع ، وأُولى هذه النواهي النهي عن الفحشاء أو الفاحشة ، والمتتبع لآيات القرآن الكريم سيجد أن الزنا هو الذنب الوحيد الذي سماه القرآن فاحشة ، فهي إذن الزنا ، أو كل شيء يخدش حُكْماً من أحكام الله تعالى ، ولكن لماذا الزنا بالذات ؟ نقول : لأن كل الذنوب الأخرى غير الزنا إنما تتعلق بمحيطات النفس الإنسانية ، أما الزنا فيتعلَّق بالنفس الإنسانية ذاتها ، ويترتب عليه اختلاط الأنساب وبه تدنَسُ الأعراض ، وبه يشكُّ الرجل في أهله وأولاده ، ويحدث بسبب هذا من الفساد ما لا يعلمه إلا الله لذلك نصَّ عليه القرآن صراحة في قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] . ومن أقوال العلماء في الفاحشة : أنها الذنب العظيم الذي يخجل صاحبه منه ويستره عن الناس ، فلا يستطيع أنْ يُجاهر به ، كأنه هو نفسه حينما يقع فيه يعلم أنه لا يصحّ ، ولا ينبغي لأحد أن يطلع عليه . والمنكر هو الذنب يتجرّأ عليه صاحبه ، ويُجاهر به ، ويستنكره الناس . إذن : لدينا هنا مرتبتان من الذنب : الأولى : أن صاحبه يتحرَّج أن يعرفه المجتمع فيستره في نفسه ، وهذا هو الفحشاء . والثانية : ما تعالم به صاحبه وأنكره المجتمع ، وهذا هو المنكر . والبغْي هو الظلم في أيِّ لَوْنٍ من ألوانه ، وهو داخل في أشياء كثيرة أعظمها ما يقع في العقيدة من الشرك بالله ، كما قال تعالى : { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] . والظلم هنا أنْ تسلبَ الحق - تبارك وتعالى - صِفة من صفاته ، وتشرك معه غيره وهو خلقك ورزقك ، ومنه ظلم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث لم يُجرَّب عليه في يوم من الأيام أنْ قال خطبة أو ألقى قصيدة ، كما لم يُجرّب عليه الكذب أو غيره من الصفات الذميمة ، ومع هذا كله قالوا عنه حينما نزل عليه القرآن كذاب وساحر ومجنون ، وأيُّ ظلم أعظم من هذا ؟ ومن الظلم ظُلْم الإنسان لنفسه حينما يُحقِّق لها شهوة عاجلة ومُتعةً زائفة ، تُورثه ندماً وحَسْرة وألماً آجلاً ، وبذلك يكون قد ظلم نفسه ظلماً كبيراً وجَرَّ عليها ما لا تطيق ، ذلك فَضْلاً عن ظلم الإنسان لغيره بشتى أنواع الظلم وأشكاله . إذن : الآية انتظمتْ مجموعة من الأوامر والنواهي التي تضمن سلامة المجتمع بما جمعتْ من مكارم الأخلاق ، والأخلاق أعمُّ من أن تكون في الاعتقادات ، وأعمُّ من أن تكون في المعجزة إيماناً بها ، وأعمُّ من أن تكون في التكاليف ، وأعمُّ من أن تكون في أمر لا حَدَّ فيه ولا حُكْمَ ولا إثم . وقوله : { يَعِظُكُمْ … } [ النحل : 90 ] . الوعظ : تذكير بالحكم ، فعندنا أولاً إعلام بالحكم لكي نعرفه ، ولكنه عُرْضة لأنْ نغفلَ عنه ، فيكون الوعظ والتذكير به ، ونحتاج إلى تكرار ذلك حتى لا نغفل . وعادة لا تكون العِظَة إلا فيما له قيمة ، وما دام الشيء له قيمة فلا تصطفي له إلا مَنْ تحب ، كذلك الحق - تبارك وتعالى - يحب خَلْقه وصَنْعته لذلك يَعِظهم ويُذكِّرهم باستمرار لكي يكونوا دائماً على الجادة ليتمتعوا بنعم المسبِّب في الآخرة ، كما تمتعوا بنعمة الأسباب في الدنيا . ثم يقول الحق سبحانه : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ … } .