Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 89-89)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ … } [ النحل : 89 ] . يعني من جنسهم . والمراد : أهل الدعوة إلى الله من الدُّعَاة والوعاظ والأئمة الذين بلّغوا الناس منهج الله ، هؤلاء سوف يشهدون أمام الله سبحانه على مَنْ قصّر في منهج الله . وقد يكون معنى : { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ … } [ النحل : 89 ] . أي : جزء من أجزائهم وعضواً من أعضائهم ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] . وقوله : { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا … } [ فصلت : 21 ] . والشهيد إذا كان من ذات الإنسان وبعض من أبعاضه فلا شكَّ أن حجته قوية وبيّنته واضحة . وقوله : { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ … } [ النحل : 89 ] . أي : شهيداً على أمتك كأنه صلى الله عليه وسلم شهيد على الشهداء . { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ … } [ النحل : 89 ] . الكتاب : القرآن الكريم … تبياناً : أي بياناً تاماً لكل ما يحتاجه الإنسان ، وكلمة شيء تُسمّى جنس الأجناس . أي : كل ما يُسمّى " شيء " فبيانُه في كتاب الله تعالى . فإنْ قال قائل : إنْ كان الأمر كذلك ، فلماذا نطلب من العلماء أن يجتهدوا لِيُخرجوا لنا حُكْماً مُعيّناً ؟ نقول : القرآن جاء معجزة ، وجاء منهجاً في الأصول ، وقد أعطى الحق تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حق التشريع ، فقال تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ … } [ الحشر : 7 ] . إذن : فسُنة الرسول صلى الله عليه وسلم قَوْلاً أو فِعْلاً أو تقريراً ثابتة بالكتاب ، وهي شارحة له ومُوضّحة ، فصلاة المغرب مثلاً ثلاث ركعات ، فأين هذا في كتاب الله ؟ نقول في قوله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ … } [ الحشر : 7 ] . " وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القضية حينما أرسل معاذ بن جبل رضي الله عنه - قاضياً لأهل اليمن ، وأراد أن يستوثق من إمكانياته في القضاء . فسأله : " بِمَ تقضي ؟ قال : بكتاب الله ، قال : فإنْ لم تجد ؟ قال : فبُسنة رسول الله ، قال : فإنْ لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو - أي لا أُقصّر في الاجتهاد . فقال صلى الله عليه وسلم : " الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي الله ورسوله " . إذن : فالاجتهاد مأخوذ من كتاب الله ، وكل ما يستجد أمامنا من قضايا لا نصّ فيها ، لا في الكتاب ولا في السنة ، فقد أبيح لنا الاجتهادُ فيها . ونذكر هنا أن الإمام محمد عبده - رحمه الله - حُدِّث عنه وهو في باريس أن أحد المستشرقين قال له : أليس في آيات القرآن : { مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ … } [ الأنعام : 38 ] . قال : بلى ، قال له : فهات لي من القرآن : كم رغيفاً يوجد في أردب القمح ؟ فقال الشيخ : نسأل الخباز فعنده إجابة هذا السؤال . . فقال المستشرق : أريد الجواب من القرآن الذي ما فرط في شيء ، فقال الشيخ : هذا القرآن هو الذي علَّمنا فيما لا نعلم أن نسأل أهل الذكر فقال : { فَاسْئَلُوۤاْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأنبياء : 7 ] . إذن : القرآن أعطاني الحجة ، وأعطاني ما أستند إليه حينما لا أجد نصّاً في كتاب الله ، فالقرآن ذكر القواعد والأصول ، وأعطاني حَقَّ الاجتهاد فيما يعِنّ لي من الفروع ، وما يستجدّ من قضايا ، وإذا وُجِد في القرآن حكم عام وجب أن يُؤخذ في طيّه ما يُؤخذ منه من أحكام صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله وكله . فقال : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ … } [ الحشر : 7 ] . وكذلك الإجماع من الأمة لأن الله تعالى قال : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ … } [ النساء : 115 ] . وكل اجتهاد يُرَدُّ إلى أهل الاجتهاد : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ … } [ النساء : 83 ] . إذن : فكلّ ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الإجماع وعن الأئمة المجتهدين موجود في القرآن ، فهو إذن صادق . ويجب هنا أن نُفرّق بين الأشياء والقضايا فهي كثيرة ، فما الذي يتعرّض له القرآن ؟ يتعرض القرآن للأحكام التكليفية المطلوبة من العبد الذي آمن بالله ، وهناك أمور كونية لا يتأثر انتفاع الإنسان بها بأنْ يعلمها ، فهو ينتفع بها سواء علمها أو جهلها ، فكوْنُ الأرض كُروية الشكل ، وكَوْنها تدور حول الشمس ، وغير هذه الأمور من الكونيات إنْ علمها فبها ونعمتْ ، وإنْ جهلها لا يمنعه جهله من الانتفاع بها . فالأُميّ الذي يعيش في الريف مثلاً ينتفع بالكهرباء ، وهو لا يعلم شيئاً عن طبيعتها وكيفية عملها ، ومع ذلك ينتفع بها ، مجرد أن يضع أصبعه على زِرّ الكهرباء تُضيء له . فلو أن الحق تبارك وتعالى أبان الآيات الكونية إبانةً واضحة ربما صَدَّ العرب الذين لا يعرفون شيئاً عن حركة الكون ، وليس لديهم من الثقافة ما يفهمون به مقاصد القرآن حول الآيات الكونية ولذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهِلّة ، كما حكى القرآن الكريم : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ … } [ البقرة : 189 ] . والأهلة : جمع هلال ، وهو ما يظهر من القمر في بداية الشهر حيث يبدو مثل قلامة الظفر ، ثم يزداد تدريجياً إلى أنْ يصل إلى مرحلة البدر عند تمام استدارته ، ثم يتناقص تدريجياً أيضاً إلى أنْ يعودَ إلى ما كان عليه ، هذه عجيبة يرونها بأعينهم ، ويسألون عنها . ولكن ، كيف رَدَّ عليهم القرآن ؟ لم يُوضح لهم القرآن الكريم كيف يحدث الهلال ، وأن الأرض إذا حالتْ بين الشمس والقمر وحجبت عنه ضوء الشمس نتج عن ذلك وجود الهلال ومراحله المختلفة . فهذا التفصيل لا تستوعبه عقولهم ، وليس لديهم من الثقافة ما يفهمون به مثل هذه القضايا الكونية لذلك يقول لهم : اصرفوا نظركم عن هذه ، وانظروا إلى حكمة الخالق سبحانه في الأهلة : { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ … } [ البقرة : 189 ] . فردّهم إلى أمر يتعلق بدينهم التقليدي ، فاهتمّ ببيان الحكمة منها ، وفي نفس الوقت ترك هذه المسألة للزمن يشرحها لهم ، حيث سيجدون في القرآن ما يُعينهم على فَهْم هذا الموضوع . إذن : قوله تعالى : { مِن شَيْءٍ … } [ الأنعام : 38 ] . أي : من كل شيء تكليفيّ ، إنْ فعله المؤمن أثيب ، وإنْ لم يفعله يُعاقب ، أما الأمور الكونية فيعطيهم منها على قدر وَعْيهم لها ، ويترك للزمن مهمة الإبانة بما يحدث فيه من فكر جديد . لذلك نرى القرآن الكريم لم يفرغ عطاءه كله في القرآن الذي نزل فيه ، فلو فعل ذلك لاستقبل القرون الأخرى بغير عطاء ، فالعقول تتفتّح على مَرِّ العصور وتتفتّق عن فكر جديد ، ولا يصح أنْ يظلَّ العطاء الأول هو نفسه لا يتجدد ، لا بُدَّ أن يكون لكل قرن عطاء جديد يناسب ارتقاءات البشر في علومه الكونية . " والرسول صلى الله عليه وسلم حينما رأى الناس يُؤبّرون النخل ، أي : يُلقّحونه . وهو ما يُعرف بعملية الإخصاب ، حيث يأخذون من الذكر ويضعون في الأنثى ، فماذا قال لهم ؟ قال : لو لم تفعلوا لأثمر ، ففي الموسم القادم تركوا هذه العملية فلم يُثمر النخل ، فلما سئل صلى الله عليه وسلم قال : " أنتم أعلم بشئون دنياكم " . فهذا أمر دنيوي خاضع للتجربة ووليد بَحْث معمليّ ، وليس من مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم توضيح هذه الأمور التي يتفق فيها الناس وتتفق فيها الأهواء ، إنما الأحكام التكليفية التي تختلف فيها الأهواء فحسمها الحق بالحكم . فمثلاً في العالم موجاتٌ مادية تهتم بالاكتشافات والاختراعات والاستنباطات التي تُسخر أسرار الكون لخدمة الإنسان ، فهل يختلف الناس حول مُعْطيات هذه الموجة المادية ؟ هل نقول مثلاً : هذه كهرباء أمريكاني ، وهذه كهرباء روسي ؟ هل نقول : هذه كيمياء إنجليزي ، وهذه كيمياء ألماني ؟ فهذه مسألة وليدة المعمل والتجربة يتفق فيها كل الناس ، في حين نجدهم يختلفون في أشياء نظرية ويتحاربون من أجلها ، فهذه اشتراكية ، وهذه رأسمالية ، وهذه وجودية ، وتلك علمانية … الخ ، فجاء الدين ليحسمَ ما تختلف فيه الأهواء . لذلك نرى كل معسكر يحاول أنْ يسرقَ ما توصَّل إليه المعسكر الآخر من اكتشافات واختراعات ، ويرسل جواسيسه ليتابعوا أحدث ما توصّل إليه غيرهم ، فهل يسرقون الأمور النظرية أيضاً ؟ لا … بل على العكس تجدهم يضعون الحواجز والاحتياطات لكي لا تنتقل هذه المبادئ إلى بلادهم وإلى أفكار مواطينهم . وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم من نفسه مثالاً ونموذجاً لتوضيح هذه المسألة ، مع أنه قد يقول قائل : لا يصح في حَقّ رسول الله أن يُشير على الناس بشيء ويتضح خطأ مشورته ، إنما الرسول هنا يريد أنْ يُؤصّل قاعدة في نفوس المتكلمين في شئون الدين : إياكم أنْ تُقحِموا أنفسكم في الأمور المادية المعملية التطبيقية ، فهذه أمور يستوي فيها المؤمن والكافر . ولذلك عندما اكتشف العلماء كُروية الأرض ، وأنها تدور حول الشمس اعترض على ذلك بعض رجال الدين ووضعوا أنوفهم في قضية لا دَخْل للدين فيها ، وقد حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك . وما قولكم بعد أن صعد العلماء إلى كواكب أخرى ، وصوروا الأرض ، وجاءت صورتها كُروية فعلاً ؟ فلا تفتحوا على أنفسكم باسم الدين باباً لا تستطيعون غَلْقه . وقوله تعالى : { وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ } [ النحل : 89 ] . الحق تبارك وتعالى وصف القرآن هنا بأنه هُدىً ، فإذا كان القرآن قد نزل تبياناً فكان التوافق يقتضي أن يقول : وهادياً ، لكن لم يَصف القرآن بأنه هادٍ ، بل هُدىً ، وكأنه نفس الهدى لأن هادياً ذاتٌ ثبت لها الهداية ، إنما هُدى : يعني هو جوهر الهدى ، كما نقول : فلان عادل . وفي المبالغة نقول : فلان عَدْل . كأن العَدْل مجسّم فيه ، وليس مجرد واحد ثبتت له صفة العدل . وكذلك مثل قولنا عالم وعليم ، وقد قال تعالى : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 76 ] . فما معنى الهدى ؟ هو الدلالة على الطريق الموصّل للغاية من أقرب الطرق . { وَرَحْمَةً } مرّة يُوصَف القرآن بأنه رحمة ، ومرة بأنه : { شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ … } [ الإسراء : 82 ] . والشفاء : أن يُوجد داء يعالجه القرآن ، والرحمة : هي الوقاية التي تمنع وجود الداء ، وما دام القرآن كذلك فمَنْ عمل بمنهجه فقد بُشِّر بالثواب العظيم من الله تعالى ، الثواب الخالد في نعيم دائم . ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ … } .