Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 92-92)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحق تبارك وتعالى يضرب لنا في هذه الآية مثلاً توضيحياً للذين ينقضون العهد والأَيْمان ، ولا يُوفون بها ، بهذه المرأة القرشية الحمقاء ريْطة بنت عامر ، وكانت تأمر جواريها بغزل الصوف من الصبح إلى الظهر ، ثم تأمرهُنَّ بنقض ما غزلنه من الظهر حتى العصر ، والمتأمل في هذا المثل يجد فيه دروساً متعددة . أولاً : ما الغزل ؟ الغَزْل عملية كان يقوم بها النساء قديماً ، فكُنَّ يُحضِرْن المادة التي تصلح للغزل مثل الصوف أو الوبر ومثل القطن الآن ، وهذه الأشياء عبارة عن شعيرات دقيقة تختلف في طولها من نوع لآخر يُسمُّونها التيلة ، فيقولون " هذه تيلة قصيرة " " وهذه طويلة " . والغَزْل هو أن نُكوِّن من هذه الشعيرات خَيْطاً طويلاً ممتداً وانسيابياً دون عُقَد فيه لكي يصلح للنسجْ بعد ذلك ، وتتم هذه العملية بآلة بدائية تسمى المغزل . تقوم المرأة بخلط هذه الشعيرات الدقيقة ثم بَرْمِها بالمغزل ، ليخرج في النهاية خيطٌ طويل مُنْسابٌ متناسق لا عُقَد فيه . والآية هنا ذكرتْ المرأة في هذا العمل لأنه عمل خاص بالنساء في هذا الوقت دون الرجال ، فكانت المرأة تكنّ في بيتها وتمارس مثل هذه الصناعات البسيطة التي تكوِّن منها أثاث بيتها من فَرْش وملابس وغيره . وإلى الآن نرى المرأة التي تحافظ على كرامتها من زحمة الحياة ومُعْترك الاختلاط ، نراها تقوم بمثل هذا العمل النسائي . وقد تطور المغزل الآن إلى ماكينة تريكو أو ماكينة خياطة ، مما يُيسِّر للنساء هذه الأعمال ، ويحفظهُنَّ في بيوتهن ، وينشر في البيت جَواً من التعاون بين الأم وأولادها ، وأمامنا مثلاً مشروع الأسر المنتجة حيث تشارك المرأة بجزء كبير في رُقِّي المجتمع ، فلا مانع إذن من عمل المرأة إذا كان عملاً شريفاً يحفظ عليها كرامتها ويصُون حرمتها . فالقرآن ضرب لنا مثلاً بعمل المرأة الجاهلية ، هذا العمل الذي يحتاج إلى جَهْد ووقت في الغزل ، ويحتاج إلى أكثر منه في نَقْضه وفكِّه ، فهذه عملية شاقة جداً ، وربما أمرت الجواري بفكِّ الغزل والنسيج أيضاً ولذلك أطلقوا عليها حمقاء قريش . وقوله : { مِن بَعْدِ قُوَّةٍ … } [ النحل : 92 ] . كلمة قوة هنا تدلُّنا على المراحل التي تمرُّ بها عملية الغَزْل ، وكم هي شاقة ، بداية من جَزِّ الصوف من الغنم أو الوبر من الجمال ، ثم خَلْط أطراف كل تيلة من هذه الشعيرات ، بحيث تكون طرف كل تيلة منها في وسط الأخرى لكي يتم التلاحم بينها بهذا المزج ، ثم تدير المرأة المغزل بين أصابعها لتخرج لنا في النهاية بضعة سنتيمترات من الخيط ، ولو قارنَّا بين هذه العملية اليدوية ، وبين ما توصلتْ إليه صناعة الغزل الآن لَتبيَّن لنا كم كانت شاقة عليهم . فكأن القرآن الكريم شبَّه الذي يُعطِي العهد ويُوثِّقه بالأيْمان المؤكدة ، ويجعل الله وكيلاً وشاهداً على ما يقول بالتي غزلتْ هذا الغزل ، وتحملت مشقته ، ثم راحتْ فنقضت ما أنجزته ، وفكَّتْ ما غزلته . وكذلك كلمة قوة تدلُّناَ على أن كل عمل يحتاج إلى قوة ، هذه القوة إما أنْ تُحرِّك الساكن أو تُسكِّن المتحرِّك لذلك قال تعالى في آية أخرى : { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ … } [ البقرة : 63 ] . لأن ساكن الخير نريد أن نحركك إليه ، ومتحرك الشر نريد أن نكفك عنه . وهذه يسمونها في عالم الحركة قانون العطالة المتحرك يظل مُتحرِّكاً إلى أنْ يعرضَ له شيء يُسكنه ، والساكن يظل ساكناً إلى أنْ يعرِضَ له شيء يُحرِّكه . ومن هنا يتعجَّب الكثيرون من الأقمار الصناعية التي تدور أعواماً عدة في الفضاء : ما الوقود الذي يُحرِّك هذه الأقمار طوال هذه الأعوام ؟ والواقع أنه لا يوجد وقود يحركها ، الوقود في مرحلة الانطلاق فقط ، إلى أن يخرج من منطقة الهواء والجذْب ، فإذا ما استقرّ القمر أو السفينة الفضائية في منطقة عدم الجذب تدور وتتحرك بنفسها دون وقود ، فهناك الشيء المتحرك يظل متحركاً ، والساكن يظل ساكناً . والحق - تبارك وتعالى - بهذا المثَل المشَاهد يُحذرنا من إخلاف العهد ونقْضه لأنه سبحانه يريد أن يصونَ مصالح الخلق لأنها قائمة على التعاقد والتعاهد والأيْمان التي تبرم بينهم ، فمَنْ خان العهد أو نقضَ الأيْمان لا يُوثق فيه ، ولا يُطْمأنُ إلى حركته في الحياة ، ويُسقطه المجتمع من نظره ، ويعزله عن حركة التعامل التي تقوم على الثقة المتبادلة بين الناس . وقوله : { أَنكَاثاً … } [ النحل : 92 ] . جمع نِكْث ، وهو ما نُقِض وحُلَّ فَتْله من الغزل . وقوله : { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ … } [ النحل : 92 ] . الدَّخَل : أنْ تدخل في الشيء شيئاً أدنى منه من جنسه على سبيل الغِشِّ والخداع ، كأن تدخل في الذهب عيار 24 قيراطاً مثلاً ذهباً من عيار 18 قيراطاً ، أو كأن تُدخِلَ في اللوز مثلاً نَوى المشمش على أنه منه . فكأن الأَيْمان القائمة على الصدق والوفاء يعطيها صاحبها وهو ينوي بها الخداع والغش ، فيحلف لصاحبه وهو يقصد تنويمه والتغرير به . وقوله : { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ … } [ النحل : 92 ] . هذه هي العلة في أنْ نتخذَ الأَيْمان دَخَلاً فيما بيننا ، الأَيْمان الزائفة الخادعة ذلك لأن الذي باع نوى المشمش مثلاً على أنه لوز ، فقد أَرْبى أي : أخذ أزيْد من حقه ونقص حَقَّ الآخرين ، فالعلة إذن في الخداع بالأَيْمان الطمع وطلب الزيادة على حساب الآخرين . وقد تأتي الزيادة بصورة أخرى ، كأن تُعاهِد شخصاً على شيء ما ، وأدَّيْتَ له بالعهود والأيْمان والمواثيق ، ثم عنَّ لك مَنْ هو أقوى منه سواء كان بالقهر والسلطان أو بالإغراء ، فنقضت العهد الأول لأن الثاني أرْبى منه وأزيد . وفي مثل هذه المواقف يجب أن يأخذ الإنسان حِذْره ، فمَنْ يُدريك لعله يُفعل بك كما فعلت ، ويُكال لك بنفس المكيال الذي كِلْتَ به لغيرك ، فاحذر إذا تجرأتَ على خَلْق الله أن يُجَرِّيء الله عليك مَنْ يسقيك من نفس الكأس . وإذا كنت صاحب حرفة أو صناعة ، فإياك أنْ تغُشَّ الناس ، وتذكَّر أن لك عندهم مصالح ، وفي أيديهم لك حرف وصناعات ، فإذا تجرأْتَ عليهم جرَّأهم الله عليك لأنه سبحانه يقول : أنا القيُّوم ، أي : القائم على أمركم ، فناموا أنتم فأنا لا أنام ، فهذه مسألة يجب أن نلحظها جيداً . مَنْ تَجرّأ على الناس جرَّأهم الله عليه ، ومَنْ أخلص عمله وأتقنه قذف الله في قلوب الخلق أنْ يُتقنوا له حاجته . وقوله : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِ … } [ النحل : 92 ] . أي : يختبركم الله تعالى بهذا العهد ، فهو سبحانه يعلم ما أنتم عليه ساعة أنْ عقدتم العهد ، أَفِي نيتكم الوفاء ، أم في نيتكم الغدر والخداع ؟ وهَبْ أنك تنوي الوفاء ثم عرضَ لك ما حال بينك وبينه ، فالله سبحانه يعلم حقائق الأمور ولا يخفَى عليه شيء . إذن : الابتلاء هنا لا يعني النكبة والبلاء ، بل يعني مجرد الاختبار والنكبة والبلاء على الذي يفشل في الاختبار ، فالعبرة هنا بالنتيجة . وقوله : { وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [ النحل : 92 ] . فيوم القيامة تجتمع الخصوم ، وتتكشَّف الحقائق ، ويأتي القضاء فيما اختلفنا فيه في الدنيا ، وهَبْ أن إنساناً عمَّى على قضاء الأرض في أشياء ، نقول له : إن عَمَّيْتَ على قضاء الأرض فلن تُعمىَ على قضاء السماء ، وانتظر يوماً نجتمع فيه ونحكم هذه المسائل . ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ … } .