Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 93-93)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لو حرف امتناع لامتناع . أي : امتناع وجود الجواب لامتناع وجود الشرط ، كما في قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] . فقد امتنع الفساد لامتناع تعدّد الآلهة . فلو شاء الله لجعلَ العالم كله أمةً واحدة على الحق ، لا على الضلال ، أمة واحدة في الإيمان والهداية ، كما جعل الأجناس الأخرى أمةً واحدة في الانصياع لمرادات الله منها . ذلك لأن كل أجناس الوجود المخلوقة للإنسان قبل أن يفِدَ إلى الحياة مخلوقة بالحق خَلْقاً تسخيرياً ، فلا يوجد جنس من الأجناس تأَبَّى عما قصد منه ، لا الجماد ولا النبات ولا الحيوان . كل هذه الأكوان تسير سَيْراً سليماً كما أراد الله منها ، والعجيب أن يكون الإنسان هو المخلوق الوحيد المختلّ في الكون ، ذلك لما له من حرية الاختيار ، يفعل أو لا يفعل . لذلك يقول الحق تبارك وتعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ … } [ الحج : 18 ] . هكذا تسجد كل هذه المخلوقات لله دون استثناء ، إلا في الإنسان فقال تعالى : { وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ … } [ الحج : 18 ] . فلماذا حدث هذا الاختلاف عند الناس ؟ لأنهم أصحاب الاختيار ، فيستطيع الواحد منهم أن يفعلَ أو لا يفعل ، هل هذه المسألة خرجت عن إرادة الله ، أم أرادها الله سبحانه وتعالى ؟ قالوا بأن الله زاول قدرته المطلقة في خَلْق الأشياء المُسخرة ، بحيث لا يخرج شيء عما أريد منه ، وكان من الممكن أنْ يأتيَ الإنسان على هذه الصورة من التسخير ، لكنه في هذه الحالة لن يزيد شيئاً ، ولن يضيف جديداً في الكون ، أليستْ الملائكة قائمة على التسخير ؟ فالتسخير يُثبِت القدرة لله تعالى ، فلا يخرج عن قدرته ولا عن مراده شيء ، لكن الاختيار يثبت المحبوبية لله تعالى ، وهذا فَرْقٌ يجب أنْ نتدبّره . فمثلاً لو كان عندك عبدان أو خادمان أحدهما سعيد ، والآخر مسعود ، فأخذت سعيداً وقيَّدته إليك في حبل ، في حين تركت مسعوداً حراً طليقاً ، وحين أمرت كلاً منهما لَبَّى وأطاع ، فأيّ طاعة ستكون أحبّ إليك : طاعة القهر والتسخير ، أم الطاعة بالاختيار ؟ فكأن الحق تبارك وتعالى خلق الإنسان وكرَّمه بأنْ جعلَه مختاراً في أنْ يطيعَ أو أنْ يعصيَ ، فإذا ما أتى طائعاً مختاراً ، وهو قادر على المعصية ، فقد أثبتَ المحبوبية لربه سبحانه وتعالى . ولا بُدَّ أنْ تتوافرَ للاختيار شروطٌ . أولها العقل ، فهو آلة الاختيار ، كذلك لا يُكلّف المجنون ، فإذا توفّر العقل فلا بُدَّ له من النُّضْج والبلوغ ، ويتمّ ذلك حينما يكون الإنسان قادراً على إنجاب مِثْله ، وأصبحتْ له ذاتية مولده . وهذه سِمَة اكتمال الذات فهو قبل هذا الاكتمال ناقص التكوين ، وليس أَهْلاً للتكليف ، فإذا كان عاقلاً ناضجاً بالبلوغ واكتمال الذات ، فلا بُدَّ له أن يكون مختاراً غَيْرَ مُكْرهٍ ، فإنْ أُكْرِه على الشيء فلن يسأل عنه ، فإنِ اختلَّ شَرْط من هذه الثلاثة فلا معنى للاختيار ، وبذلك يضمن الحق تبارك وتعالى للإنسان السلامة في الاختيار . والحق تبارك وتعالى وإن كرَّم الإنسان بالاختيار ، فمن رحمته به أنْ يجعلَ فيه بعض الأعضاء اضطرارية مُسخّرة لا دَخْلَ له فيها . ولو تأملنا هذه الأعضاء لوجدناها جوهرية ، وتتوقف عليها حياة الإنسان ، فكان من رحمة الله بنا أنْ جعل هذه الأعضاء تعمل وتُؤدِّي وظيفتها دون أنْ نشعرَ . فالقلب مثلاً يعمل بانتظام في اليقظة والمنام دون أن نشعرَ به ، وكذلك التنفس والكُلَى والكبد والأمعاء وغيرها تعمل بقدرته سبحانه مُسخّرة ، كالجماد والنبات والحيوان . ومن لُطْفِ الله بخَلْقه أنْ جعلَ هذه الأعضاء مُسخّرة ، لأنه بالله لو أنت مختار في عمل هذه الأعضاء ، كيف تتنفس مثلاً وأنت نائم ؟ ! إذن : من رحمة الله أنْ جعلكَ مختاراً في الأعمال التي تعرِضُ لك ، وتحتاج فيها إلى النظر في البدائل ولذلك يقولون : الإنسان أبو البدائل . فالحيوان مثلاً وهو أقرب الأجناس إلى الإنسان ليس لديْه هذه البدائل ولا يعرفها ، فإذا آذيتَ حيواناً فإنه يُؤذيك ، وليس لديه بديل آخر . ولكن إذا آذيْت إنساناً ، فيحتمل أن يردّ عليك بالمثل ، أو بأكثر مما فعلتَ ، أو أقلّ ، أو يعفو ويصفح ، والعقل هو الذي يُرجِّح أحد هذه البدائل . إذن : لو شاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل الناس أمة واحدة لجعلها ، كما قال تعالى : { أَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعاً } [ الرعد : 31 ] . ولكنه سبحانه وتعالى لم يشَأْ ذلك ، بدليل قوله : { وَلـٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ … } [ النحل : 93 ] . وهذه الآية يقف عندها المتمحِّكون ، والذين قَصُرَتْ أنظارهم في فهْم كتاب الله ، فيقولون : طالما أن الله هو الذي يضِلّ الناس ، فلماذا يُعذِّبهم ؟ ونتعجَّب من هذا الفهم لكتاب الله ونقول لهؤلاء : لماذا أخذتُمْ جانب الضلال وتركتُم جانب الهدى ؟ لماذا لم تقولوا : طالما أن الله بيده الهداية ، وهو الذي يهدي ، فلماذا يُدخِلنا الجنة ؟ إذن : هذه كلمة يقولها المسرفون لأن معنى : { يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ … } [ النحل : 93 ] . أي : يحكم على هذا من خلال عمله بالضلال ، ويحكم على هذا من خلال عمله بالهداية ، مثل ما يحدث عندنا في لجان الامتحان ، فلا نقول : اللجنة أنجحت فلاناً وأرسبت فلاناً ، فليست هذه مهمتها ، بل مهمتها أن تنظر أوراق الإجابة ، ومن خلالها تحكم اللجنة بنجاح هذا وإخفاق ذاك . وكذلك الحق - تبارك وتعالى - لا يجعل العبد ضالاً ، بل يحكم على عمله أنه ضلال وأنه ضَالّ فالمعنى إذن : يحكم بضلال مَنْ يشاء ، ويحكم بهُدَى مَنْ يشاء ، وليس لأحد أن ينقلَ الأمر إلى عكس هذا الفهم ، بدليل قوله تعالى بعدها : { وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النحل : 93 ] . فالعبد لا يُسأل إلا عَمَّا عملتْ يداه ، والسؤال هنا معناه حرية الاختيار في العمل ، وكيف تسأل عن شيء لا دَخْل لك فيه ؟ فلنفهم - إذن - عن الحق تبارك وتعالى مُرَادَهُ من الآية . ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ … } .