Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 94-94)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وردتْ كلمة الدّخَل في الآية قبل السابقة وقلنا : إن معناها : أن تُدخِلَ في الشيء شيئاً أدْنى منه من جنسه على سبيل الغشِّ والخداع ، وإن كان المعنى واحداً في الآيتين فإن الآية السابقة جاءت لتوضيح سبب الدَّخَل وعَلّته ، وهي أن تكون أُمة أَرْبى من أمة ، ويكسب أحد الأطراف على حساب الآخر . أما في هذه الآية فجاءت لتوضيح النتيجة من وجود الدَّخَل ، وهي : { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا … } [ النحل : 94 ] . ففي الآية نَهْيٌ عن اتخاذ الأَيْمان للغش والخداع والتدليس لأن نتيجة هذا الفعل فساد يأتي على المجتمع من أساسه ، وفَقْد للثقة المتبادلة بين الناس والتي عليها يقوم التعامل ، وتُبنَى حركة الحياة ، فالذي يُعطي عهداً ويُخلْفه ، ويحلف يميناً ويحنث فيه يشتهر عنه أنه مُخلِف للعهد ناقض للميثاق . وبناءً عليه يسحب الناس منه الثقة فيه ، ولا يجرؤ أحد على الصَّفَق معه ، فيصبح مَهيناً ينفضُ الناس أيديهم منه ، بعد أنْ كان أميناً وأهلاً للثقة ومَحَلاً للتقدير . هذا معنى قوله تعالى : { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا … } [ النحل : 94 ] . وبذلك يسقط حقُّه مع المجتمع ، ويحيق به سوء فِعْله ، ويجني بيده ثمار ما أفسده في المجتمع ، وبانتشار هذا الخلُق السيئ تتعطّل حركة الحياة ، وتضيع الثقة والأمانة . إذن : هذه زَلَّة وكَبْوة بعد ثبات وقوة ، بعد أنْ كان أَهْلاً للثقة صاحب وفاء بالعهود والمواثيق يُقبِل عليه الناس ، ويُحبُّون التعامل معه بما لديْه من شرف الكلمة وصِدْق الوعد ، فإذا به يتراجع للوراء ، ويتقهقر للخلف ، ويفقد هذه المكانة . ولذلك نجد أهل المال والتجارة يقولون : فلان اهتزَّ مركزه في السوق أي : زَلَّتْ قدمه بما حدث منه من نقْضٍ للعهود ، وحِنْث في الأيمان وغير ذلك مما لا يليق بأهل الثقة في السوق ، ومثل هذا ينتهي به الأمر إلى أنْ يعلنَ إفلاسه في دنيا التعامل مع الناس . أما الوفاء بالعهود والمواثيق والأَيْمان فيجعل قدمك في حركة الحياة ثابتة لا تتزحزح ولا تهتزّ ، فترى مال الناس جميعاً مالَه ، وتجد أصحاب الأموال مقبلين عليك يضعون أموالهم بين يديك ، بما تتمتع به من سمعة طيبة ونزاهة وأمانة في التعامل . ولذلك ، فالتشريع الإسلامي حينما شرع لنا الشركة راعى هذا النوع من الناس الذي لا يملك إلا سمعة طيبة وأمانة ونزاهة ووفاء ، هذا هو رأس مالهم ، فإنْ دخل شريك بما لديْه من رأس المال ، فهذا شريك بما لديْه من شرف الكلمة وشرف السلوك ، ووجاهة بين الناس ، وماضٍ مُشرِّف من التعامل . وهذه يسمونها " شركة الوجوه والأعيان " وهذا الوجيه في دنيا المال والتجارة لم يأخذ هذه الوجاهة إلا بما اكتسبه من احترام الناس وثقتهم ، وبما له من سوابق فضائل ومكارم . وكذلك ، قد نرى هذه الثقة لا في شخص من الأشخاص ، بل نراها في ماركة من الماركات أو العلامات التجارية ، فنراها تُبَاع وتُشْترى ، ولها قيمة غالية في السوق بما نالتْه من احترام الناس وتقديرهم ، وهذا أيضاً نتيجة الصدق والالتزام والأمانة وشرف الكلمة . وقوله تعالى : { وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوۤءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 94 ] . السوء : أي العذاب الذي يسُوء صاحبه في الدنيا من مهانة واحتقار بين الناس ، وكسَاد في الحال ، بعد أنْ سقط من نظر المجتمع ، وهدم جِسْر الثقة بينه وبين مجتمعه . وقوله تعالى : { بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ … } [ النحل : 94 ] . الحديث هنا عن الذين ينقضون العهود والأَيْمان ولا يُوفُونَ بها ، فهل في هذا صَدٌّ عن سبيل الله ؟ نقول : أولاً إن معنى سبيل الله : كل شيء يجعل حركة الحياة منتظمة تُدَار بشرف وأمانة وصِدْق ونفاذ عهد . ومن هنا ، فالذي يُخلف العهد ، ولا يفي بالمواثيق يعطي للمجتمع قدوة سيئة تجعل صاحب المال يضِنُّ بماله ، وصاحب المعروف يتراجع ، فلو أقرضتَ إنساناً وغدرَ بكَ فلا أظنُّك مُقرِضاً لآخر . إذن : لا شَكَّ أن في هذا صداً عن سبيل الله ، وتزهيداً للناس في فعْل الخير . وقوله تعالى : { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 94 ] . فبالإضافة إلى ما حاقَ بهم من خسارة في الدنيا ، وبعد أنْ زَلَّتْ بهم القدم ، ونزل بهم من عذاب الدنيا ألوانٌ ما زال ينتظرهم عذاب عظيم أي في الآخرة . ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ … } .