Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 98-98)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الاستعاذة : اللجوء والاعتصام بالله من شيء تخافُه ، فأنت لا تلجأ ولا تعتصم ، ولا تستجير ولا تستنجد إلا إذا استشعرتَ في نفسك أنك ضعيف عن مقاومة عدوك . فإذا كان عدوك الشيطان بما جعل الله له من قوة وسلطان ، وما له من مداخل للنفس البشرية فلا حَوْلَ لك ولا قُوّة في مقاومته إلا أنْ تلجأ إلى الله القوي الذي خلقك وخلق هذا الشيطان ، وهو القادر وحده على رَدّه عنك لأن الشيطان في معركة مع الإنسان تدور رحاها إلى يوم القيامة . وقد أقسم الشيطان للحق تبارك وتعالى ، فقال : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82 - 83 ] . فما عليك إلا أن تكون من هؤلاء ، ما عليك إلا أنْ ترتمي في حضن ربك عز وجل وتعتصم به ، فهو سبحانه القوي القادر على أنْ يدفعَ عنك ما لم تستطع أنت دَفْعه عن نفسك ، فلا تقاومه بقوتك أنت لأنه لا طاقة لك به ، ولا تدعه ينفرد بك لأنه إن انفرد بك وأبعدك عن الله فسوف تكون له الغلبة . ولذلك نقول دائماً : لا حَوْلَ ولا قوةَ إلا بالله ، أي : لا حول : لا تحوُّل عن المعصية . ولا قوة . أي : على الطاعة إلا بالله . ونحن نرى الصبي الصغير الذي يسير في الشارع مثلاً قد يتعرَّض لمَنْ يعتدي عليه من أمثاله من الصبية ، أما إذا كان في صُحْبة والده فلا يجرؤ أحد منهم أنْ يتعرضَ له ، فما بالك بمَنْ يسير في صُحْبة ربه تبارك وتعالى ، ويُلْقي بنفسه في حماية الله سبحانه ؟ ! وفي مقام الاستعاذة بالله نذكر قاعدة إيمانية علَّمنا إياها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف : " من استعاذ بالله فأعيذوه " . فيلزم المؤمن أنْ يعيذ من استعاذ بالله ، وإنْ كان في أحب الأشياء إليه ، " والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا القدوة في ذلك ، حينما تزوج من فتاة على قدر كبير من الحسن والجمال لدرجة أن نساءه غِرْنَ منها ، وأخذْنَ في الكَيْد لها وزحزحتها من أمامهن حتى لا تغلبهن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن كيف لهُنَّ ذلك ؟ حاولْنَ استغلال أن هذه الفتاة ما تزال صغيرة غِرة ، تتمتع بسلامة النية وصفاء السريرة ، ليس لديها من تجارب الحياة ما تتعلم منه لُؤْماً أو مكْراً ، وهي أيضاً ما تزال في نشوة فرحتها بأنْ أصبحت أماً للمؤمنين ، وتحرص كل الحرص على إرضاء النبي صلى الله عليه وسلم فاستغل نساء النبي صلى الله عليه وسلم هذا كله ، وقالت لها إحداهن : إذا دخلتِ على رسول الله فقولي له : أعوذ بالله منك ، فإنه يحب هذه الكلمة . أخذت الفتاة هذه الكلمة بما لديها من سلامة النية ، ومحبة لرسول الله ، وحرص على إرضائه ، وقالت له : أعوذ بالله منك ، وهي لا تدري معنى هذه العبارة فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد عُذْت بمعاذ ، الحقي بأهلك " " . أي : ما دُمْت استعذت بالله فأنا قبلت هذه الاستعاذة لأنكِ استعذت بمعاذ أي : بمن يجب علينا أن نترككِ من أجله ، ثم طلقها النبي صلى الله عليه وسلم امتثالاً لهذه الاستعاذة . إذن : مَن استعاذ بالله لا بُدَّ للمؤمن أنْ يُعيذه ، ومن استجار بالله لا بُدَّ للمؤمن أن يكون جندياً من جنود الله ، ويجيره حتى يبلغ مأمنه . وفي الآية الكريمة أسلوب شرط ، اقترن جوابه بالفاء في قوله تعالى : { فَٱسْتَعِذْ … } [ النحل : 98 ] . فإذا رأيت الفاء فاعلم أن ما بعدها مترتبٌ على ما قبلها ، كما لو قُلْتَ : إذا قابلت محمداً فقُلْ له كذا … فلا يتم القول إلا بعد المقابلة . أما في الآية الكريمة فالمراد : إذا أردت قراءة القرآن فاستعِذْ لأن الاستعاذة هنا تكون سابقة على القراءة ، كما جاء في قَول الحق تبارك وتعالى : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ … } [ المائدة : 6 ] . فالمعنى : إذا أردتُمْ إقامة الصلاة فاغسلوا وجوهكم ، وكذلك إذا أردتَ قراءة القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم لأن القرآن كلام الله . ولو آمنّا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتكلم لعلمنا أن قراءة القرآن تختلف عن أي قراءة أخرى ، فأنت كي تقرأ القرآن تقوم بعمليات متعددة : أولها : استحضار قداسة المُنْزِل سبحانه الذي آمنتَ به وأقبلتَ على كلامه . ثانيها : استحضار صدق الرسول في بلاغ القرآن المنزّل عليه . ثالثها : استحضار عظمة القرآن الكريم ، بما فيه من أوجه الإعجاز ، وما يحويه من الآداب والأحكام . إذن : لديك ثلاث عمليات تستعد بها لقراءة كلام الله في قرآنه الكريم ، وكل منها عمل صالح لن يدعكَ الشيطانُ تؤديه دون أنْ يتعرَّض لك ، ويُوسوس لك ، ويصرفك عما أنت مُقبِلٌ عليه . وساعتها لن تستطيع منعه إلا إذا استعنت عليه بالله ، واستعذتَ منه بالله ، وبذلك تكون في معية الله منزل القرآن سبحانه وتعالى ، وفي رحاب عظمة المنزل عليه محمد صدقاً ، ومع استقبال ما في القرآن من إعجاز وآداب وأحكام . ومن هنا وجب علينا الاستعاذة بالله من الشيطان قبل قراءة القرآن . ومع ذلك لا مانع من حَمْل المعنى على الاستعاذة أيضاً بعد قراءة القرآن ، فيكون المراد : إذا قرأتَ القرآن فاستعذ بالله … أي : بعد القراءة لأنك بعد أن قرأتَ كتاب الله خرجتَ منه بزاد إيماني وتجليّات ربانية ، وتعرَّضْتَ لآداب وأحكام طُلبت منك ، فعليك - إذن - أن تستعيذ بالله من الشيطان أن يفسِد عليك هذا الزاد وتلك التجليات أو يصرفك عن أداء هذه الآداب والأحكام . وقوله تعالى : { مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } [ النحل : 98 ] . أي : الملعون المطرود من رحمة الله لأن الشيطان ليس مخلوقاً جديداً يحتاج أنْ نُجرِّبه لنعرف طبيعته وكيفية التعامل معه ، بل له معنا سوابق عداء منذ أبينا آدم عليه السلام . وقد حذر الله تعالى آدم منه فقال : { يآءَادَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ … } [ طه : 117 ] . وسبق أنْ رُجم ولُعِن وأُبعِد من رحمة الله ، فقد هددنا بقوله : { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ … } [ الإسراء : 62 ] . إذن : هناك عداوة مسبقة بيننا وبينه منذ خُلِق الإنسان ، وإلى قيام الساعة . ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ … } .