Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 18-18)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الحق تبارك وتعالى قبل أن يخلق الإنسان الذي جعله خليفة له في أرضه ، خلق له الكون كُلّه بما فيه ، وخلق له جميع مُقوّمات حياته ، ووالى عليه نِعَمه إيجاداً من عدم ، وإمداداً من عُدم ، وجعل من مُقوّمات الحياة ما ينفعل له وإنْ لم يُطلب منه ، كالشمس والقمر والهواء والمطر … الخ فهذه من مُقوّمات حياتك التي تُعطيك دون أنْ تتفاعلَ معها . ومن مُقوّمات الحياة مَا لا ينفعل لك ، إلا إذا تفاعلتَ معه ، كالأرض مثلاً لا تعطيك إلا إذا حرثتها ، وبذرت فيها البذور فتجدها قد انفعلتْ لك ، وأعطتْك الإنتاج الوفير . والمتأمل في حضارات البشر وارتقاءاتهم في الدنيا يجدها نتيجة لتفاعل الناس مع مُقوّمات الحياة بجوارحهم وطاقاتهم ، فتتفاعل معهم مُقوِّمات الحياة ، ويحدث التقدم والارتقاء . وقد يرتقي الإنسان ارتقاءً آخر ، بأن يستفيد من النوع الأول من مُقوّمات الحياة ، والذي يعطيه دون أنْ يتفاعل معه ، استفادة جديدة ، ومن ذلك ما توصّل إليه العلماء من استخدام الطاقة الشمسية استخدامات جديدة لم تكن موجودة من قبل . إذن : فهذه نواميس في الكون ، الذي يُحسِن استعمالها تُعطيه النتيجة المرجوة ، وبذلك يُثري الإنسان حياته ويرتقي بها ، وهذا ما أَسْمَيناه سابقاً عطاء الربوبية الذي يستوي فيه المؤمن والكافر ، والطائع والعاصي . لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ … } [ الإسراء : 18 ] . أي : عطاء الدنيا ومتعها ورُقيها وتقدّمها . { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ … } [ الإسراء : 18 ] . أجبْنَاهُ لما يريد من متاع الدنيا . ولا بُدَّ لنا أنْ نتنبه إلى أن عطاء الربوبية الذي جعله الله للمؤمن والكافر ، قد يغفل عنه المؤمن ويترك مُقوّمات الحياة وأسبابها يستفيد منها الكافر ويتفاعل معها ويرتقي بها ، ويتقدم على المؤمن ، ويمتلك قُوته ورغيف عيشه ، بل وجميع متطلبات حياتهم ، ثم بالتالي تكون لهم الكلمة العليا والغلبة والقهر ، وقد يفتنونك عن دينك بما في أيديهم من أسباب الحياة . وهذا حال لا يليق بالمؤمن ، ومذلة لا يقبلها الخالق سبحانه لعباده ، فلا يكفي أن نأخذ عطاء الألوهية من أمر ونهي وتكليف وعبادة ، ونغفل أسباب الحياة ومُقوّماتها المادية التي لا قِوامَ للحياة إلا بها . في حين أن المؤمن أَوْلَى بمقوّمات الحياة التي جعلها الخالق في الكون من الكافر الذي لا يؤمن بإله . إذن : فمن الدين ألاَّ تمكِّن أعداء الله من السيطرة على مُقوِّمات حياتك ، وألاَّ تجعلَهم يتفوقون عليك . وقوله : { مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ … } [ الإسراء : 18 ] . أي : أن تفاعل الأشياء معك ليس مُطْلقاً ، بل للمشيئة تدخُّلٌ في هذه المسألة ، فقد تفعل ، ولكن لا تأخذ لحكمة ومراد أعلى ، فليس الجميع أمام حكمة الله سواء ، وفي هذا دليل على طلاقة القدرة الإلهية . ومعنى { مَا نَشَآءُ . . } للمعجَّل و { لِمَن نُّرِيدُ } للمعجَّل له . وما دام هذا يريد العاجلة ، ويتطلع إلى رُقيِّ الحياة الدنيا وزينتها ، إذن : فالآخرة ليستْ في باله ، وليست في حُسْبانه لذلك لم يعمل لها ، فإذا ما جاء هذا اليوم وجد رصيده صِفْراً لا نصيبَ له فيها لأن الإنسان يأخذ أجره على ما قدّم ، وهذا قدَّم للدنيا وأخذ فيها جزاءه من الشهرة والرقيّ والتقدّم والتكريم . قال تعالى : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ النور : 39 ] . والسراب ظاهرة طبيعية يراها مَنْ يسير في الصحراء وقت الظهيرة ، فيرى أمامه شيئاً يشبه الماء ، حتى إذا وصل إليه لم يجدْهُ شيئاً ، كذلك إنْ عمل الكافرُ خيراً في الدنيا فإذا أتى الآخرة لم يجدْ له شيئاً من عمله لأنه أخذ جزاءه في الدنيا . ثم تأتي المفاجأة : { وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ … } [ النور : 39 ] . لأن الله تعالى لم يكُنْ في حُسْبانه حينما قدَّم الخير في الدنيا . وفي آية أخرى يصفه القرآن بقوله : { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيْءٍ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ } [ إبراهيم : 18 ] . فمرة يُشبِّه عمل الكافر بالماء الذي يبدو في السراب ، ومرة يُشبِّهه بالرماد لأن الماء إذا اختلط بالرماد صار طيناً ، وهو مادة الخِصْب والنماء ، وهو مُقوِّم من مُقوِّمات الحياة . ووصفه بقوله تعالى : { كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 264 ] . والحق تبارك وتعالى في هذه الآية يُجسِّم لنا خَيْبة أمل الكافر في الآخرة في صورة مُحسَّة ظاهرة ، فمثَلُ عمل الكافر كحجر أملس أصابه المطر ، فماذا تنتظر منه ؟ وماذا وراءه من الخير ؟ ثم يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً } [ الإسراء : 18 ] . أي : أعددناها له ، وخلقناها من أجله يُقاسي حرارتها { مَذْمُوماً } أي : يذمُّه الناس ، والإنسان لا يُذَمّ إلا إذا ارتكب شيئاً ما كان يصحّ له أنْ يرتكبه . و { مَّدْحُوراً } [ الإسراء : 18 ] مطروداً من رحمة الله . وبعد أنْ أعطانا الحق سبحانه صورة لمن أراد العاجلة وغفل عن الآخرة ، وما انتهى إليه من العذاب ، يعطينا صورة مقابلة ، صورة لمن كان أعقل وأكيس ، ففضَّل الآخرة . يقول الحق سبحانه : { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا … } .