Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 19-19)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المتأمل في أسلوب القرآن الكريم يجده عادة يُعطِيِ الصورة ومقابلها لأن الشيء يزداد وضوحاً بمقابله ، والضِّد يظهر حُسْنه الضّد ، ونرى هذه المقابلات في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى كما في : { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 13 - 14 ] . وهنا يقول تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ … } [ الإسراء : 19 ] في مقابل : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ … } [ الإسراء : 18 ] . قوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا … } [ الإسراء : 19 ] . أي : أراد ثوابها وعمل لها . { وَهُوَ مُؤْمِنٌ … } [ الإسراء : 19 ] . لأن الإيمان شَرْط في قبول العمل ، وكُلُّ سعي للإنسان في حركة الحياة لا بُدَّ فيه من الإيمان ومراعاة الله تعالى لكي يُقبَل العمل ، ويأخذ صاحبه الأجر يوم القيامة ، فالعامل يأخذ أجره ممَّنْ عمل له . فالكفار الذين خدموا البشرية باختراعاتهم واكتشافاتهم ، حينما قدّموا هذا الإنجازات لم يكُنْ في بالهم أبداً العمل لله ، بل للبشرية وتقدُّمها لذلك أخذوا حقهم من البشرية تكريماً وشهرة ، فأقاموا لهم التماثيل ، وألّفوا فيهم الكتب … الخ . إذن : انتهت المسألة : عملوا وأخذوا الأجر ممن عملوا لهم . وكذلك الذي يقوم ببناء مسجد مثلاً ، وهذا عمل عظيم يمكن أن يُدخل صاحبه الجنة إذا توافر فيه الإيمان والإخلاص لله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة " . ولكن سرعان ما نقرأ على باب المسجد لافتة عريضة تقول : أنشأه فلان ، وافتتحه فلان … الخ مع أنه قد يكون من أموال الزكاة ! ! وهكذا يُفسد الإنسان على نفسه العمل ، ويُقدم بنفسه ما يُحبطه ، إذن : فقد فعل ليقال وقد قيل . وانتهت القضية . وقوله تعالى : { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [ الإسراء : 19 ] . وهذا جزاء أهل الآخرة الذين يعملون لها ، ومعلوم أن الشكر يكون لله استدراراً لمزيد نِعَمه ، كما قال تعالى : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ … } [ إبراهيم : 7 ] . فما بالك إنْ كان الشاكر هو الله تعالى ، يشكر عبده على طاعته ؟ وهذا يدل على أن العمل الإيماني يُصادف شُكْراً حتى من المخالف له ، فاللص مثلاً إنْ كان لديه شيء نفيس يخاف عليه ، فهل يضعه أمانة عند لصٍّ مثله ، أم عند الأمين الذي يحفظه ؟ فاللصّ لا يحترم اللص ، ولا يثق فيه ، في حين يحترم الأمين مع أنه مخالف له ، وكذلك الكذاب يحترم الصادق ، والخائن يحترم الأمين . ومن هنا كان كفار مكة رغم عدائهم للنبي صلى الله عليه وسلم وكفرهم بما جاء به إلا أنهم كانوا يأتمنونه على الغالي والنفيس عندهم لأنهم واثقون من أمانته ، ويلقبونه " بالأمين " ، رغم ما بينهما من خلاف عقديّ جوهري ، فهم فعلاً يكذبونه ، أما عند حفْظ الأمانات فلن يغشُّوا أنفسهم ، لأن الأحفظ لأماناتهم محمد صلى الله عليه وسلم . وقد ضربنا لذلك مثلاً بشاهد الزور الذي تستعين بشهادته ليُخرجك من ورطة ، أو قضية ، فرغم أنه قضى لك حاجتك وأخرجك من ورطتك ، إلا أنه قد سقط من نظرك ، ولم يعُدْ أهلاً لثقتك فيما بعد . لذلك قالوا : مَنِ استعان بك في نقيصة فقد سقطْتَ من نظره ، وإنْ أعنْتَه على أمره كشاهد الزور ترتفع الرأس على الخصم بشهادته وتدوس القدم على كرامته . ثم يقول الحق سبحانه عن كلا الفريقين : { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ … } .