Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 24-24)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَٱخْفِضْ } : الخفْض ضد الرّفْع . { جَنَاحَ ٱلذُّلِّ } : الطائر معروف أنه يرفع جناحه ويُرفْرِف به ، إنْ أراد أن يطير ، ويخفضه إنْ أراد أن يحنوَ على صغاره ، ويحتضنهم ويغذيهم . وهذه صورة مُحسَّة لنا ، يدعونا الحق سبحانه وتعالى أن نقتدي بها ، وأن نعامل الوالدين هذه المعاملة ، فنحنو عليهم ، ونخفض لهم الجناح ، كنايةً عن الطاعة والحنان والتواضع لهما ، وإياك أن تكون كالطائر الذي يرفع جناحيه ليطير بهما مُتعالياً على غيره . وكثيراً ما يُعطينا الشرع الحكيم أمثلة ونماذج للرأفة والرحمة في الطيور ، ويجعلها قدوة لنا بني البشر . والذي يرى الطائر يحتضن صغاره تحت جناحه ، ويزقّهم الغذاء يرى عجباً ، فالصغار لا يقدرون على مضغ الطعام وتكسيره ، وليس لديهم اللعاب الذي يساعدهم على أنْ يزدردوا الطعام فيقوم الوالدان بهذه المهمة ، ثم يناولانهم غذاءهم جاهزاً يسهل بَلْعه ، وإنْ تيسر لك رؤية هذا المنظر فسوف ترى الطائر وفراخه يتراقصون فرحة وسعادة . إذن : قوله تعالى : { جَنَاحَ ٱلذُّلِّ … } [ الإسراء : 24 ] . كناية عن الخضوع والتواضع ، والذُّل قد يأتي بمعنى القهر والغلبة ، وقد يأتي بمعنى العطف والرحمة ، يقول تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ … } [ المائدة : 54 ] . فلو كانت الذلّة هنا بمعنى القهر لقال : أذلة للمؤمنين ، ولكن المعنى : عطوفين على المؤمنين . وفي المقابل { أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ … } [ المائدة : 54 ] . أي : أقوياء عليهم قاهرين لهم . وفي آية أخرى يقول تعالى : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ … } [ الفتح : 29 ] . لأن الخالق سبحانه لم يخلق الإنسان رحيماً على الإطلاق ولا شديداً على الإطلاق ، بل خلق في المؤمن مرونة تمكِّنه أن يتكيف تبعاً للمواقف التي يمر بها ، فإنْ كان على الكافر كان عزيزاً ، وإنْ كان على المؤمن كان ذليلاً متواضعاً . ونرى وضوحَ هذه القضية في سيرة الصِّديق أبي بكر والفاروق عمر رضي الله عنهما ، وقد عُرِف عن الصِّديق اللين ورِقَّة القلب والرحمة ، وعُرِف عن عمر الشدة في الحق والشجاعة والقوة ، فكان عمر كثيراً ما يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تصادم بأحد المعاندين : " إئذن لي يا رسول الله أضرب عنقه " . وعندما حدثت حروب الردة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كان لكل منهما موقف مغاير لطبيعته ، فكان مِنْ رأي عمر ألاّ يحاربهم في هذه الفترة الحرجة من عمر الدعوة ، في حين رأى الصديق محاربتهم والأخْذ على أيديهم بشدة حتى يعودوا إلى ساحة الإسلام ، ويُذعنوا لأمر الله تعالى فقال : " والله ، لو منعوني عقالاً كانوا يُؤدُّونه لرسول الله لجالدتهم عليه بالسيف ، والله لو لم يَبْق إلا الزرع " . وقد جاء هذا الموقف من الصِّديق والفاروق لحكمة عالية ، فلو قال عمر مقالة أبي بكر لكان شيئاً طبيعياً يُنْسب إلى شدة عمر وجرأته ، لكنه أتى من صاحب القلب الرحيم الصِّديق - رضي الله عنه - ليعرف الجميع أن الأمر ليس للشدة لذاتها ، ولكن للحفاظ على الدين والدفاع عنه . وكأن الموقف هو الذي صنع أبا بكر ، وتطلب منه هذه الشدة التي تغلبت على طابع اللين السائد في أخلاقه . فيقول تعالى : { وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ … } [ الإسراء : 24 ] . إذن : الذلَّة هنا ذِلَّة تواضع ورحمة بالوالدين ، ولكن رحمتك أنت لا تكفي ، فعليك أن تطلب لهما الرحمة الكبرى من الله تعالى : { وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً … } [ الإسراء : 24 ] . لأن رحمتك بهما لا تَفِيِ بما قدّموه لك ، ولا ترد لهما الجميل ، وليس البادىء كالمكافىء ، فهم أحسنوا إليك بداية وأنت أحسنتَ إليهما ردّاً لذلك ادْعُ الله أنْ يرحمهما ، وأنْ يتكفل سبحانه عنك برد الجميل ، وأن يرحمهما رحمة تكافىء إحسانهما إليك . وقوله تعالى : { كَمَا رَبَّيَانِي … } [ الإسراء : 24 ] . كما : قد تفيد التشبيه ، فيكون المعنى : ارحمهما رحمة مثل رحمتهما بي حين ربياني صغيراً . أو تفيد التعليل : أي ارحمهما لأنهما ربياني صغيراً ، كما قال تعالى : { وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ … } [ البقرة : 198 ] . و { رَبَّيَانِي } هذه الكلمة أدخلت كل مُربٍّ للإنسان في هذا الحكم ، وإنْ لم يكُنْ من الوالدين ، لأن الولد قد يُربّيه غير والديه لأيِّ ظرف من الظروف ، والحكم يدور مع العلة وجوداً وعَدماً ، فإنْ ربّاك غير والديك فلهما ما للوالدين من البرِّ والإحسان وحُسْن المعاملة والدعاء . وهذه بشرى لمن رَبَّى غير ولده ، ولا سيما إنْ كان المربَّى يتيماً ، أو في حكم اليتيم . وفي : { رَبَّيَانِي صَغِيراً } [ الإسراء : 24 ] اعتراف من الابن بما للوالدين من فضل عليه وجميل يستحق الرد . وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه في تذييل هذا الحكم بقضية تشترك فيها معاملة الابن لأبويه مع معاملته لربه عز وجل ، فيقول تعالى : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ … } .