Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 25-25)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقد سبق أنْ تكلّمنا عن الإيمان والنفاق ، وقلنا : إن المؤمن منطقيّ مع نفسه لأنه آمن بقلبه ولسانه ، وأن الكافر كذلك منطقيّ لأنه كفر بقلبه ولسانه ، أما المنافق فغير منطقيّ مع نفسه لأنه آمن بلسانه وجحد بقلبه . وهذه الآية تدعونا إلى الحديث عن النفاق لأنه ظاهرة من الظواهر المصاحبة للإيمان بالله ، وكما نعلم فإن النفاق لم يظهر في مكة التي صادمتْ الإسلام وعاندته ، وضيقتْ عليه ، بل ظهر في المدينة التي احتضنتْ الدين ، وانساحت به في شتى بقاع الأرض ، وقد يتساءل البعض : كيف ذلك ؟ نقول : النفاق ظاهرة صحية إلى جانب الإيمان لأنه لا يُنافَق إلا القوي ، والإسلام في مكة كان ضعيفاً ، فكان الكفار يُجابهونه ولا ينافقونه ، فلما تحوّل إلى المدينة اشتد عوده ، وقويتْ شوكته وبدأ ضِعَاف النفوس ينافقون المؤمنين . لذلك يقول أحدهم : كيف وقد ذَمَّ الله أهل المدينة ، وقال عنهم : { وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ … } [ التوبة : 101 ] . نقول : لقد مدح القرآن أهل المدينة بما لا مزيدَ عليه ، فقال تعالى في حقهم : { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ … } [ الحشر : 9 ] . وكأنه جعل الإيمان مَحَلاً للنازلين فيه . { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ … } [ الحشر : 9 ] . فإنْ قال بعد ذلك : { وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ … } [ التوبة : 101 ] . فالنفاق في المدينة ظاهرة صحية للإيمان لأن الإيمان لو لم يكن قوياً في المدينة لما نافقه المنافقون . ومن هنا جعل الله المنافقين في الدرْكِ الأسفل من النار ، لأنه مُندَسٌّ بين المؤمنين كواحد منهم ، يعايشهم ويعرف أسرارهم ، ولا يستطيعون الاحتياط له ، فهو عدو من الداخل يصعُب تمييزه . على خلاف الكافر ، فعداوته واضحة ظاهرة معلنة ، فيمكن الاحتياط له وأخذ الحذر منه . ولكن لماذا الحديث عن النفاق ونحن بصدد الحديث عن عبادة الله وحده وبِرِّ الوالدين ؟ الحق سبحانه وتعالى أراد أنْ يُعطينا إشارة دقيقة إلى أن النفاق كما يكون في الإيمان بالله ، يكون كذلك في برِّ الوالدين ، فنرى من الأبناء مَنْ يبرّ أبويْه نفاقاً وسُمْعة ورياءً ، لا إخلاصاً لهما ، أو اعترافاً بفضلهما ، أو حِرْصاً عليهما . ولهؤلاء يقول تعالى : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ … } [ الإسراء : 25 ] . لأن من الأبناء مَنْ يبرّ أبويه ، وهو يدعو الله في نفسه أنْ يُريحه منهما ، فجاء الخطاب بصيغة الجمع : { رَّبُّكُمْ } أي : رب الابن ، وربّ الأبوين لأن مصلحتكم عندي سواء ، وكما ندافع عن الأب ندافع أيضاً عن الابن ، حتى لا يقعَ فيما لا تُحمد عُقباه . وقوله : { إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ … } [ الإسراء : 25 ] . أيْ : إن توفّر فيكم شَرْط الصلاح ، فسوف يُجازيكم عليه الجزاء الأوفى . وإنْ كان غَيْر ذلك وكنتم في أنفسكم غير صالحين غَيْر مخلصين ، فارجعوا من قريب ، ولا تستمروا في عدم الصلاح ، بل عودوا إلى الله وتوبوا إليه . { فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً } [ الإسراء : 25 ] . والأوابون هم الذين اعترفوا بذنوبهم ورجعوا تائبين إلى ربهم . وقد سبق أنْ أوضحنا أن مشروعية التوبة من الله للمذنبين رحمةٌ من الخالق بالخلق لأن العبد إذا ارتكب سيئة في غفلة من دينه أو ضميره ، ولم تشرع لها توبة لوجدنا هذه السيئة الواحدة تطارده ، ويشقى بها طِوَال حياته ، بل وتدعوه إلى سيئة أخرى ، وهكذا يشقى به المجتمع . لذلك شرع الخالقُ سبحانه التوبة ليحفظ سلامة المجتمع وأَمْنه ، وليُثرِي جوانب الخير فيه . ثم يُوسّع القرآن الكريم دائرة القرابة القريبة وهي " الوالدان " إلى دائرة أوسع منها ، فبعد أنْ حنَّنه على والديه لفتَ نظره إلى ما يتصل بهما من قرابة ، فقال تعالى : { وَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ … } .