Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 33-33)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ … } [ الإسراء : 33 ] . كان القياس أنْ يُقابل الجمع بالجمع ، فيقول : لا تقتلوا النفوس التي حرَّم الله ، لكن الحق سبحانه وتعالى يريد أن قَتْل النفس الواحدة مسئوليةُ الجميع ، لا أنْ يسأل القاتل عن النفس التي قتلها ، بل المجتمع كله مسئول عن هذه الجريمة . { ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ … } [ الإسراء : 33 ] أي : جعلها محرّمة لا يجوز التعدي عليها لأنها بنيان الله وخلْقته وصناعته ، وبنيان الله لا يهدمه أحد غيره . أو نقول : { ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ … } [ الإسراء : 33 ] أي : حرَّم الله قتلها . { إِلاَّ بِٱلحَقِّ … } [ الإسراء : 33 ] هذا استثناء من الحكم السابق الذي قال : لا تقتلوا النفس التي حرم الله { إِلاَّ بِٱلحَقِّ } أي : ولكن اقتلوها بالحق ، والحق هنا المراد به ثلاثة أشياء : - القصَاص من القاتل . - الردَّة عن الإسلام . - زِنَا المحصَن أو المحصَنة . وهذه أسباب ثلاثة تُوجِب قَتْل الإنسان ، والقتْل هنا يكون بالحق أي : بسبب يستوجب القتل . وقد أثار أعداء الإسلام ضَجَّة كبيرة حول هذه الحدود وغيرها ، واتهموا الإسلام بالقسوة والوحشية ، وحُجَّتهم أن هذه الحدود تتنافى وإنسانية الإنسان وآدميته ، وتتعارض مع الحرية الدينية التي يقول بها الإسلام في قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ … } [ البقرة : 256 ] . ففي القصاص قالوا : لقد خَسِر المجتمع واحداً بالقتل ، فكيف نُزِيد من خسارته بقتْل الآخر ؟ نقول : لا بُدَّ أن نستقبلَ أحكام الله بفْهمٍ وَاع ونظرة متأمّلة ، فليس الهدف من تشريع الله للقصاص كثرة القتل ، إنما الهدف ألاّ يقع القتل ، وألاَّ تحدثَ هذه الجريمة من البداية . فحين يُخبرك الحق سبحانه أنك إنْ قتلتَ فسوف تُقتَلُ ، فهو يحمي حياتك وحياة الآخرين . وليس لدى الإنسان أغلى من حياته ، حتى القاتل لم يقتل إلا لأنه يحب الحياة ، وقتل من أجلها مَنْ قتل لأنه ربما خدش عِزَّته أو كرامته ، وربما لأنه عدو له أقوى منه . ولا شكَّ أن حياته أغلى من هذا كله ، فحين نقول له : إنْ قتلتَ ستُقتل ، فنحن نمنعه أنْ يُقدِم على هذه الجريمة ، ونُلوّح له بأقسى ما يمكن من العقوبة . ولذلك قالوا : القتْلُ أنْفَى للقتل . وقال تعالى : { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ … } [ البقرة : 179 ] . وهذا نداء لأصحاب الأفهام والعقول الواعية ، ليس القصاص كما يظنُّ البعض ، بل فيه الحياة وفيه سلامة المجتمع وحَقْن الدماء . ويجب أن يكون عندنا يقظةُ استقبال لأحكام الله لأن القاتل ما قتل إلا حينما غفل عن الحكم ، ويجب أيضاً أن ننظر إلى حكم القصاص نظرة موضوعية ، لأنه كما حَمى غيري من قَتْلِي له حماني أيضاً من قَتْل غيري لي ، وما دامت المسألة : لك مثل ما عليك ، وحظك منها كحظِّ الناس جميعاً ، فلماذا الاعتراض ؟ وكذلك في السرقة ، حينما يقول لك : لا تسرق ، فأنت ترى أن هذا الأمر قد قيَّد حريتك أنت ، لكن الحقيقة أنه أيضاً قيَّد حرية الآخرين بالنسبة للسرقة منك . والذي يتأمل هذه الحدود يجدها في صالح الفرد لأنها تُقيِّد حريته وهو فرد واحد ، وتُقيَّد من أجله حرية المجتمع كله . وفي الزكاة ، حينما يُوجِب عليك الشارع الحكيم أنْ تُخرِج قَدْراً معلوماً من مالك للفقراء ، فلا تَقُلْ : هذا مالي جمعتُه بجَهْدي وعَرقي . ونقول لك : نعم هو مالك ، ولكن لا تنسَ أن الأيام دُوَلٌ وأغيار ، والغنيّ اليوم قد يفتقر غداً ، فحين تعضّك الأيام فسوف تجد مَنْ يعطيك ، ويَكيل لك بنفس الكَيْل الذي كِلْتَ به للناس . إذن : يجب أن نكون على وَعْي في استقبال الأحكام عن الله تعالى ، وأن ننظر إليها نظرة شمولية ، فنرى ما لنا فيها وما علينا ، وما دامت هذه الأحكام تعطينا بقدر ما تأخذ مِنّا فهي أحكام عادلة . وحُكْم القصاص يجعل الإنسان حريصاً على نفسه ، ويمنعه أنْ يُقدِم على القَتْل ، فإنْ غفل عن هذا الحكم وارتكب هذه الجريمة فلا بُدَّ أن يقتصَّ منه فإن أخذتنا الشهامة وتشدَّقْنا بالإنسانية والكرامة والرحمة الزائفة ، وعارضنا إقامة الحدود فليكُنْ معلوماً لدينا أن مَنْ يعارض في إعدام قاتل فسوف يتسبب في إعدام الملايين ، وسوف يفتح الباب لفوضى الخلافات والمنازعات ، فكلّ من اختلف مع إنسان سارع إلى قَتْله لأنه لا يوجد رادع يُردِعه عن القتل . إذن : لكي نمنع القتل لا بُدَّ أن نُنفِّذَ حكم الله ونُقيم شَرعه ولو على أقرب الناس لأن هذه الأحكام ما نزلتْ لتكون كلاماً يُتلَى وفقط بل لتكون منهجاً عملياً يُنظِّم حياتنا ، ويحمي سلامة مجتمعنا . لذلك جعل الحق سبحانه وتعالى تنفيذ هذه الأحكام علانية أمام الجميع ، وعلى مَرْأى ومَسْمع المجتمع كله ليعلموا أن أحكام الله ليست شفوية ، بل ها هي تُطبِّق أمامهم ، وصدق الله تعالى حين قال : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ النور : 2 ] . والذين اعترضوا على القصاص اعترضوا أيضاً على إقامة حَدّ الردَّة ، ورأوا فيه وحشية وكَبْتاً للحرية الدينية التي كفَلها الإسلام في قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ … } [ البقرة : 256 ] . والحقيقة أن الإسلام حينما شرع حَدَّ الردة ، وقال بقتل المرتد عن الدين أراد أن يُصعِّب على غير المسلمين الدخول في الإسلام ، وأن يُضيِّق عليهم هذا الباب حتى لا يدخل في الإسلام إلا مَنْ أخلص له ، واطمأنَّ قلبه إليه ، وهو يعلم تماماً أنه إنْ تراجع عن الإسلام بعد أن دخل فيه فجزاؤه القتل . فهذه تُحسَب للإسلام لا عليه لأنه اشترط عليك أولاً ، وأوضح لك عاقبة ما أنت مُقدِم عليه . أما حرية الدين والعقيدة فهي لك قبل أن تدخل الإسلام دخولاً أولياً ، لا يجبرك أحد عليه ، فلك أنْ تظلَّ على دينك كما تحب ، فإنْ أردتَ الإسلام فتفكّر جيداً وتدبّر الأمر وابحثه بكل طاقات البحث لديك . فليس في دين الله مجالٌ للتجربة ، إنْ أعجبكَ تظلّ في ساحته ، وإنْ لم يَرُق لك تخرج منه ، فإنْ علمتَ هذه الشروط فليس لك أنْ تعترضَ على حدِّ الردّة بعد ذلك . ولتعلم أن دين الله أعزّ وأكرم من أنْ يستجدي أحداً للدخول فيه . ثم يقول تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً … } [ الإسراء : 33 ] . وهذا حكم نفي ، المفروض ألاَّ يحدث . ومعنى { مَظْلُوماً } أي : قُتِل دون سبب من الأسباب الثلاثة السابقة أي : دون حق ، فعلى فَرْض أن هذا القتل وقع بالفعل ، فما الحكم ؟ يقول تعالى : { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ … } [ الإسراء : 33 ] . وليه : أي وليّ المقتول ، وهو مَنْ يتولّى أمره من قرابته : الأب أو الأخ أو الابن أو العم … الخ فهو الذي يتولّى أمر المطالبة بدمه . { سُلْطَاناً … } [ الإسراء : 33 ] أي : شرعنا له ، وأعطيناه الحقَّ والقوة في أنْ يقتل القاتل ، والسلطان يكون في خدمة التنفيذ ، ويُمكّنه منه ، وكذلك المؤمنون أيضاً يقفون إلى جواره ، ويساعدونه في تنفيذ هذا الحكم لأن الأمر من الله قد يكون رادعه في ذات النفس ، لكن إنْ ضعُفَتْ النفس فلا بُدَّ لرادع من الخارج ، وهنا يأتي دور السلطان ودور المجتمع الإيماني الذي يُعين على إقامة هذا الحكم . إذن : جعل الحق سبحانه وتعالى سلطان القصاص لوليّ الدم ، فإنْ لم يكن له وليّ فإن السلطان ينتقل للحاكم العام ليتولى إقامة هذا الحكم ، لكن ما يُتعِب الدنيا - حينما ينتقل حَقُّ القصاص إلى الحاكم العام - طُول الإجراءات التي تُخرج الحكم عن المراد منه ، وتُذْكِي نار الحقد والغِلِّ والتِّرَة في نفسِ وليَّ الدم . فوليّ الدم وحده الذي يُعاني طول فترة التقاضي مع أناس لا يعنيهم أن تطولَ هذه الفترة أو تقصُر لأن طول فترة التقاضي تأتي في صالح القاتل ، حيث بمرور الأيام - بل والسنين - تبْرُد شراسة الجريمة في نفوس الناس ، وتأخذ طريقاً إلى طيّات النسيان . وبهذا تبهت الجريمة وتُنسَى بشاعتها ، وبدلَ أن يقف المجتمع ويفكر في القاتل وفي القصاص منه ، تتحول الأنظار والعواطف إلى النفس الجديدة التي ستُقتل ، وبذلك يتعاطف الناس معه بدل أن يتعاطفوا في إقامة القصاص عليه . لكن يجب أنْ يُقامَ القصاص قبل أنْ تبرُدَ شراسة الجريمة في النفوس ، وتبهت وتفقد حرارتها . والحق سبحانه وتعالى كما شرع القصاص ، وجعله في يد وليّ الدم ، أراد في الوقت نفسه ألاَّ يحرم المجتمع من طموحات العفو الذي يُنهِي أصول الخلاف ، فيقول تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ … } [ البقرة : 178 ] . ففي جَوِّ القتل وثورة الدماء التي تغلي بالثأر يتكلم الحق سبحانه عن العفو والأخوة والمعروف والإحسان ، فمهما كان الأمر فالمؤمنون إخوة ، وباب العفو والإحسان مفتوح . ولوليّ الدم بعد أن أعطيناه حَقَّ القصاص ندعوه إلى العفو ، وله أن يأخذ الدية وتنتهي المسألة ، وله أن يعفوَ عن بعضها أو عنها كلها . إذن : فإعطاء الحق مَنع عن المقتول له ذِلّة التسلُّط من القاتل لأن الله تعالى أعطاه حَقَّ القصاص منه ، فإذا ما عفا عنه عَلِم القاتل أن حياته أصبحت هبة من وليّ الدم ، وما دام الأمر كذلك فسوف تتلاشى بينهما الضغائن والأحقاد ، ويحل محلها الوفاق والمحبة والسلام ، ونُنهي تسلسل الثارات الذي لا ينتهي . وقد اشتهر في صعيد مصر - وكان مثالاً للأخْذ بالثأر - أن القاتل يأخذ كفنه في يده ، ويذهب به إلى وليّ الدم ويُسلِّم نفسه إليه معترفاً بجريمته ، معطياً لولي الدم حرية التصرف فيه . فما يكون من ولي الدم أمام هذا الاستسلام إلاّ أن يعفوَ ويصفح ، وبذلك تُقتلَع الضغائن من جذورها . ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ … } [ الإسراء : 33 ] . أي : طالما أن الله أعطاك حَقَّ القصاص فليكُنْ القصاص بقَدْره دون زيادة أو تعدٍّ أو مجاوزة للحدِّ ، والإسراف في القتل يكون بأوجه عدة : فقد يكون القاتل غير ذي شأن في قومه ، فلا يرضى وليّ الدم بقتْله ، بل يتطلع إلى قتل إنسان آخر ذي مكانة وذي شأن ، فيقتل إنساناً بريئاً لا ذنبَ له ، وهذا من الإسراف في القتل ، وهو إسرافٌ في ذات المقتول . وقد يكون الإسراف في الكَمِّ ، فإنْ قُتِل واحد فلا يكتفي وليّ الدم بأن يقتل القاتل ، بل يحمله الغِلّ وثورة الدم إلى أنْ يقتل به أكثر من واحد . وقد يكون الإسراف بأنْ يُمثّل بجثة المقتول ، ولا يكفيه قتله ، والمفروض ألاَّ يحملك الغضب على تجاوز الحدِّ المشروع لك . وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعلها في قاتل حمزة ، فنهاه الله عن ذلك . ثم يقول تعالى : { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } [ الإسراء : 33 ] . أي : لا يجوز له أنْ يُسرف في القتل لأننا لم نتخلّ عنه ، بل وقفنا بجانبه وأعطيناه حقّ القصاص ومكنَّاه منه ، إذن : فهو منصور ليس متروكاً ، فيجب أن يقف عند حَدِّ النُّصْرة لا يتجاوزها لأنه إن تجاوزها بقتل غير القاتل ، فسوف يُقتل هو الآخر قصاصاً . ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ … } .