Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 32-32)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بعد أن تحدّث الحق سبحانه عما يحفظ النسل ويستبقي خلافة الله في الأرض ، أراد سبحانه أن يحمي هذا النسل من الضياع ، ويوفر له الحياة الكريمة . والإنسان مِنّا حينما يُرزَق بالولد أو البنت يطير به فَرحاً ، ويُؤثِره على نفسه ، ويُخرج اللقمة من فيه ليضعها في فم ولده ، ويسعى جاهداً ليُوفّر له رفاهية العيش ، ويُؤمِّن له المستقبل المُرْضِي ، وصدق الشاعر حين قال : @ إنما أَوْلاَدُنَا أكبادُناَ تمشي عَلَى الأَرْضِ إنْ هَبَّتْ الريحُ على بَعْضــهِم امتنعَتْ عَيْني عَنِ الغُمْضِ @@ لكن هذا النظام التكافليّ الذي جعله الحق سبحانه عماداً تقوم عليه الحياة الأسرية سرعان ما ينهار من أساسه إذا ما دَبَّ الشكُّ إلى قلب الأب في نسبة هذا الولد إليه ، فتتحوّل حياته إلى جحيم لا يُطَاق ، وصراع داخلي مرير لا يستطيع مواجهته أو النطق به لأنه طَعْن في ذاته هو . لذلك يُحذِّرنا الحق - تبارك وتعالى - من هذه الجريمة النكْراء ليحفظ على الناس أنسابهم ، ويطمئن كل أب إلى نسبة أبنائه إليه ، فيحنو عليهم ويرعاهم ، ويستعذب ألم الحياة ومتاعبها في سبيل راحتهم . فيقول تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ … } [ الإسراء : 32 ] . والمتأمل في آي القرآن الكريم يجد أن الحق سبحانه حينما يُكلِّمنا عن الأوامر يُذيِّل الأمر بقوله تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا … } [ البقرة : 229 ] . والحديث هنا عن أحكام الطلاق ، فقد وضع له الحق سبحانه حدوداً ، وأمرنا أن نقف عندها لا نتعداها ، فكأنه سبحانه أوصلنا إلى هذا الحد ، والممنوع أن نتعداه . وأما في النواهي ، فيُذيلها بقوله : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا … } [ البقرة : 187 ] . والنهي هنا عن مباشرة النساء حال الاعتكاف ، وكأن الحق سبحانه يريد ألاّ نصلَ إلى الحدِّ المنهي عنه ، وأنْ يكون بيننا وبينه مسافة ، فقال { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } لنظلّ على بُعْدٍ من النواهي ، وهذا احتياط واجب حتى لا نقتربَ من المحظور فنقع فيه . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " . فالحق سبحانه خالق الإنسان ، وهو أعلم به لا يريد له أنْ يقتربَ من المحظور لأن له بريقاً وجاذبية كثيراً ما يضعف الإنسان أمامها لذلك نهاه عن مجرد الاقتراب ، وفَرْقٌ بين الفعل وقُرْبان الفعل ، فالمحرّم المحظور هنا هو الفِعْل نفسه ، فلماذا إذن حرَّم الله الاقتراب أيضاً ، وحذّر منه ؟ نقول : لأن الله تعالى يريد أنْ يرحَم عواطفك في هذه المسألة بالذات ، مسألة الغريزة الجنسية ، وهي أقوى غرائز الإنسان ، فإنْ حُمْتَ حولها توشك أن تقعَ فيها ، فالابتعاد عنها وعن أسبابها أسلَمُ لك . وحينما تكلَّم العلماء عن مظاهر الشعور والعلم قسَّموها إلى ثلاث مراحل : الإدراك ، ثم الوجدان ، ثم النزوع . فلو فرضنا أنك تسير في بستان فرأيتَ به وردة جميلة ، فلحظة أنْ نظرتَ إليها هذا يُسمَّى " الإدراك " لأنك أدركتَ وجودها بحاسة البصر ، ولم يمنعك أحد من النظر إليها والتمتُّع بجمالها . فإذا ما أعجبتك وراقك منظرها واستقر في نفسك حُبُّها فهذا يسمى " الوجدان " أي : الانفعال الداخلي لما رأيتَ ، فإذا مددتَ يدك لتقطفها فهذا " نزوع " أي : عمل فعلي . ففي أي مرحلة من هذه الثلاث يتحكَّم الشرع ؟ الشرع يتحكم في مرحلة النزوع ، ولا يمنعك من الإدراك ، أو من الوجدان ، إلا في هذه المسألة " مسألة الغريزة الجنسية " فلا يمكن فيها فَصْل النزوع عن الوجدان ، ولا الوجدان عن الإدراك ، فهي مراحل ملتحمة ومتشابكة ، بحيث لا تقوى النفس البشرية على الفَصْل بينها . فإذا رأى الرجل امرأة جميلة ، فإن هذه الرؤية سرعان ما تُولِّد إعجاباً وميلاً ، ثم عِشْقاً وغريزة عنيفة تدعوه أنْ تمتدَّ يده ، ويتولد النزوع الذي نخافه ، وهنا إما أنْ ينزعَ ويُلبي نداء غريزته ، فيقع المحرم ، وإما أنْ يعف ويظل يعاني مرارة الحرمان . والخالق سبحانه أعلم بطبيعة خَلْقه ، وبما يدور ويختلج داخلهم من أحاسيس ومشاعر لذلك لم يُحرِّم الزنا فحسب ، بل حرَّم كل ما يؤدي إليه بداية من النظر ، فقال تعالى : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ … } [ النور : 30 ] . لأنك لو أدركتَ لوجدتَ ، ولو وجدتَ لنزعتَ ، فإنْ أخذتََ حظَّك من النزوع أفسدتَ أعراض الناس ، وإنْ عففتَ عِشْتَ مكبوتاً تعاني عِشْقاً لن تناله ، وليس لك صبر عنه . إذن : الأسلم لك وللمجتمع ، والأحفظ للأعراض وللحرمات أنْ تغُضَّ بصرك عن محارم الناس فترحم أعراضهم وترحم نفسك . لكن هذه الحقيقة كثيراً ما تغيب عن الأذهان ، فيغشّ الإنسانُ نفسه بالاختلاط المحرم ، وإذا ما سُئل ادَّعى البراءة وحُسْن النية وأخذ من صلة الزمالة أو القرابة أو الجوار ذريعة للمخالطة والمعاشرة وهو لا يدري أنه واهم في هذا كله ، وأن خالقه سبحانه أدرى به وأعلم بحاله ، وما أمره بغضِّ بصره إلا لما يترتب عليه من مفاسد ومضار ، إما تعود على المجتمع ، أو عليه نفسه . لذلك قال صلى الله عليه وسلم : " النظرة سَهْم مسموم من سهام إبليس ، مَنْ تركها من مخافتي أبدلتُه إيماناً يجد حلاوته في قلبه " . ومن هنا نفهم مراده سبحانه من قوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ … } [ الإسراء : 32 ] . ولم يقل : لا تزنوا . لأن لهذه الجريمة مقدمات تؤدي إليها ، فاحذر أنْ تجعلَ نفسك على مقربة منها لأن مَنْ حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، ودَعْكَ ممَّنْ يُنادون بالاختلاط والإباحية لأن الباطل مهما عَلاَ ومهما كَثُر أتباعه فلن يكون حقاً في يوم من الأيام . واحذر ما يشيع على الألسنة من قولهم هي بنت عمه ، وهو ابن خالها ، وهما تربَّيا في بيت واحد ، إلى آخر هذه المقولات الباطلة التي لا تُغيّر من وجه الحرام شيئاً ، فطالما أن الفتاة تحل لك فلا يجوز لك الخلوة بها . وفي الحديث النبوي : " لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما " . إذن : ما حرَّم الإسلام النظر لمجرد النظر ، وما حرّم الخُلْوة في ذاتها ولكن حَرَّمهما لأنهما من دوافع الزنا وأسبابه . فيقول تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ … } [ الإسراء : 32 ] أبلغ في التحريم وأحوط وأسلم من : لا تزنوا . ومثال ذلك أيضاً قوله تعالى في تحريم الخمر : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ المائدة : 90 ] . ومع ذلك يخرج علينا مَنْ يقول : ليس في القرآن آية واحدة تحرم شرب الخمر … سبحان الله ، فأيُّهما أبلغ وأشدّ في التحريم أن نقول لك : لا تشرب الخمر ، أم اجتنب الخمر ؟ لا تشرب الخمر : نَهْي عن الشُّرْب فقط . إذن : يُبَاحُ لك شراؤها وبيعُها وصناعتها ونقلها … الخ . أما الاجتناب فيعني : البعد عنها كُلية ، وعدم الالتقاء بها في أي مكان ، وعلى أية صورة . فالاجتناب - إذن - أشدّ من مجرد التحريم . وكيف نقول بأن الاجتناب أقل من التحريم ، وقد قال تعالى في مسألة هامة من مسائل العقيدة : { وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا … } [ الزمر : 17 ] . فهل تقول في هذه : إن الاجتناب أقلّ من التحريم ؟ وهل عبادة الطاغوت ليست محرمة ؟ ! ثم يقول تعالى : { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً … } [ الإسراء : 32 ] . الفاحشة : هي الشيء الذي اشتدّ قبْحه . وقد جعل الحق سبحانه الزنا فاحشة لأنه سبحانه وتعالى حينما خلق الزوجين : الذكر والأنثى ، وقدَّر أن يكون منهما التناسل والتكاثر قدَّر لهما أصولاً يلتقيان عليها ، ومظلّة لا يتم الزواج إلا تحتها ، ولم يترك هذه المسألة مشَاعاً يأتيها مَنْ يأتيها ليحفظ للناس الأنساب ، ويحمي طهارة النسل ، فيطمئن كل إنسان إلى سلامة نسبه ونسب أولاده . والمراد من الأصول التي يلتقي عليها الزوجان عقد القِران الذي يجمعهما بكلمة الله وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم . وهَبْ أن لك بنتاً بلغت سنَّ الزواج ، وعلمتَ أن شاباً ينظر إليها ، أو يحاول الاقتراب منها ، أو ما شابه ذلك ، ماذا سيكون موقفك ؟ لا شكَّ أن نار الغيرة ستشتعل بداخلك ، وربما تعرَّضْتَ لهذا الشاب ، وأقمْتَ الدنيا ولم تُقعِدْها . لكن إذا ما طرق هذا الشاب بابَك ، وتقدَّم لخطبة ابنتك فسوف تقابله بالترْحَاب وتسعد به ، وتدعو الأهل ، وتقيم الزينات والأفراح . إذن : فما الذي حدث ؟ وما الذي تغيَّر ؟ وما الفرق بين الأولى والثانية ؟ الفرق بينهما هو الفرق بين الحلال والحرام لذلك قيل : " جدع الحلال أنف الغيرة " . فالذي يغَارُ على بناته من لمسة الهواء تراه عند الزواج يُجَهِّز ابنته ، ويُسلمها بيده إلى زوجها لأنهما التقيا على كلمة الله ، هذه الكلمة المقدسة التي تفعل في النفوس الأعاجيب . مجرد أن يقول وليُّ الزوجة : زوجتُكَ ، ويقول الزوج : وأنا قبلتُ . تنزل هذه الكلمة على القلوب بَرْداً وسلاماً ، وتُحدِث فيها انبساطاً وانشراحاً لأن لهذه الكلمة المقدسة عملاً في التكوين الذاتي للإنسان ، ولها أثر في انسجام ذراته ، وفي كل قطرة من دمه . ومن آثار كلمة الله التي يلتقي عليها الزوجان ، أنها تُحدِث سيالاً بينهما ، هو سِيَال الاستقبال الحسن ، وعدم الضَّجَر ، وعدم الغيرة والشراسة ، فيلتقيان على خير ما يكون اللقاء . ولذلك حينما يُشرِّع لنا الحق تبارك وتعالى العِدَّة ، نجد عدة المطلقة غير عِدَّة المتوفَّى عنها زوجها ، وفي هذا الاختلاف حكمة لأن الحق سبحانه يعلم طبيعة النفس البشرية وما يُؤثّر فيها . ولو كانت الحكمة من العدة مجرد استبراء الرحم لكفى شهر واحد وحَيْضة واحدة ، إنما الأمر أبعد من ذلك ، فعند المرأة اعتبارات أخرى وما زالت تحت تأثير الزواج السابق لأن سيال الحال فيه التقاء الإيجاب والسلب من الرجل والمرأة ، وقد تعودتْ المرأة على الإيجاب الحلال والسلب الحلال . فإذا طُلِّقَت المرأة فلا يحلّ لها الزواج قبل انقضاء العدة التي حددها الشرع بثلاثة أشهر ، وهي المدة التي يهدأ فيها سِيَال الحلال في نفسها ويجمد ، وبذلك تكون صالحة للالتقاء بزوج آخر . أما في حالة المتوفّى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشرة ، والحكمة من الفارق بين العِدَّتين أن المطلقة غالباً ما يكون بين الزوجين كُرْه ، هذا الكُرْه بينهما يساعد على موت السِّيال لأنها بطبيعة الحال نافرة عنه غير راغبة فيه . أما المتوفَّى عنها زوجها فقد فارقها دون كُرْه ، فرغبتها فيه أشدّ لذلك تحتاج إلى وقت أطول للتخلُّص من هذا السيال . والحق سبحانه هنا يُراعِي طبيعة المرأة ومشاعرها ، وعواطف الميل والرغبة في زوجها ، ويعلم سبحانه أن هذا الميلَ وهذه الرغبة تحتاج إلى وقت ليهدأ هذه العواطف لدى المرأة ، وتستعد نفسياً للالتقاء بزوج آخر لأن لقاء الزوج بزوجته مسألة لا يحدث الانسجام فيها بالتكوين العقلي ، بل الانسجام فيها بالتكوين العاطفي الغريزي الذي يعتمد بالدرجة الأولى على توافق الذرات بين الذكر والأنثى . هذا التوافق هو الذي يُولّد ذرات موجبة ، وذرات سالبة ، فيحدث التوافق ، ويحدث الحب والعِشْق الذي يجمعهما ويمتزجان من خلاله . وهذا - كما قلنا - أثر من آثار كلمة الله التي اجتمعا عليها وتحت ظلها . وهكذا يلتقي الزوجان في راحة وهدوء نفسي ، ويسكن كل منهما للآخر لأن ذراتهما انسجمت وتآلفت ويفرح الأهل ويسعد الجميع ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال في وصيته بالنساء : " إنما استحللتم فروجهن بكلمة الله " وهذه الكلمة من الله تعالى الذي خلق الإنسان ويعلم ما يُصلحه ولك أنْ تتصورَ الحال إنْ تَمَّ هذا اللقاء فيما حَرَّم الله ، وبدون هذه الكلمة وما يحدث فيه من تنافر الذرات وعدم انسجام ونكَدٍ ومرارة لا تنتهي ، ما بقيتْ فيهما أنفاس الحياة . لذلك سمَّاه القرآن فاحشةً ، والدليل على فُحْشه أن الموصوم به يحب ألاَّ يُعرف ، وأن تظل جرائمه خِلْسة من المجتمع ، وأن الذي يقترف هذه الفاحشة يكره أن تُفعلَ في محارمه ، ويكفيها فُحْشاً أن الله تعالى سماها فاحشة ، وشرع لها حداً يُقام على مرتكبها علانية أمام أعين الجميع . وقد عالج رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الداء ، حينما أتاه شاب يشتكي ضعفه أمام غريزته الجنسية ، ويقول له : يا رسول الله ائذن لي في الزنا ، والنبي صلى الله عليه وسلم أتى بقضايا دينيه عامة للجميع ، ولكن حين يعالج داءات المجتمع يعالج كل إنسان بما يناسبه ، وعلى حَسْب ما فيه من داءات الضعف أمام شهوات نفسه . ويتضح لنا هذا المنهج النبوي في جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد سُئِلَ كثيراً عن أفضل الأعمال ، فقال لأحدهم : " الصلاة لوقتها " . وقال لآخر : " أنْ تَلْقى أخاك بوجه طَلْق " . وقال لآخر : " أنْ تَبرَّ أخاك " . وهكذا تعددتْ الإجابات ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصف مزيجاً عاماً يعطيه للجميع ، بل يعطي لكل سائل الجرعة التي تُصلِح خللاً في إيمانه ، كالطبيب الذي يهتم بعلاج مريضه ، فيُجرى له التحاليل والفحوصات اللازمة ليقف على موضع المرض ويصِف العلاج المناسب . فكيف استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشاب الذي جاءه يقول : يا رسول الله إنني أصلي وأصوم ، وأفعل كل أوامر الدين إلا أنني لا أقدر على مقاومة هذه الغريزة ؟ هل نهره واعتبره شاذاً ، وأغلق الباب في وجهه ؟ لا والله ، بل اعتبره مريضاً جاء يطلب العلاج بعد أن اعترف بمرضه ، والاعتراف بالمرض أولى خطوات الشفاء والعافية . وهذا الشاب ما جاء لرسول الله إلا وهو كاره لمرضه ، وأول ظاهرة في العافية أن تعترف بمرضك ، ولا تتكبر عليه ، فإنْ تكبَّرتَ عليه استفحلَ واستعصى على العلاج . وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم شكوى هذا الشاب ظاهرة صحية في إيمانه لأنه ما جاء يشكو إلا وهو كاره لهذه الجريمة ، ويجد لها شيئاً في نفسه ، وانظر كيف عالجه النبي صلى الله عليه وسلم : " أجلسه ، ثم قال له : " يا أخا العرب أتحب هذا لأمك ؟ " فانتفض الشاب ، وتغيَّر وجهه وقال : لا يا رسول الله جُعِلْتُ فِدَاك ، فقال : " أتحبه لأختك ؟ أتحبه لزوجتك ؟ أتحبه لبناتك ؟ " والشاب يقول في كل مرة : لا يا رسول الله جُعِلْتُ فِدَاك . ثم قال صلى الله عليه وسلم : " وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم ولا لأخواتهم ولا لزوجاتهم ولا لبناتهم " ثم وضع يده الشريفة على صدر هذا الشاب ودعا له : " اللهم نَقِّ صدره ، وحَصِّن فَرْجه " . وانصرف الشاب وهو يقول : لقد خرجتُ من عند رسول الله وليس أكرَه عندي من الزنا ، ووالله ما همَمْتُ بشيء من ذلك إلا وذكرْتُ أمي وأختي وزوجتي وبناتي . وما أشبه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في علاج هذا الشاب بما يفعله أهل الصيدلة ، فعندهم مصطلح يسمونه " برشمة المر " ، فإن كان الدواء مُرّاً لا يستسيغه المريض غَلَّفوه بمادة سكرية حتى يمرَّ من منطقة التذوق ، فلا يشعر المريض بمرارته . وقد جعل الخالق سبحانه منطقة التذوق في اللسان فحسب ، دون غيره من الأعضاء التي يمرُّ بها الطعام ، واللسان آية من آيات الله في خَلْق الإنسان ، ومظهر من مظاهر قدرته سبحانه ، حيث جعل فيه حلمات دقيقة يختصُّ كل منها بتذوُّق نوع من الطعام : فهذه للحلو ، وهذه للمر ، وهذه للحرِّيف ، وهكذا ، مع أنها مُتراصّة ومُلْتصقة بعضها ببعض . وكما تحدث برشمة الدواء الحسيِّ المر ، كذلك يحدث في العلاجات الأدبية المعنوية ، فيُغلِّف الناصح نصيحته ليقبلها المتلقي ويتأثر بها لذلك قالوا : النصح ثقيل ، فاستعيروا له خِفَّة البيان . وقالوا : الحقائق مُرّة ، فلا ترسلوها جبلاً ، ولا تجعلوها جدلاً . وعلى الناصح أن يراعي حال المنصوح ، وأنْ يرفقَ به ، فلا يجمع عليه قسوة الحرمان مما أَلِف مع قسوة النصيحة . وقد وضع لنا الحق سبحانه المنهج الدعوي الذي يجب أن نسير عليه في قوله تعالى : { ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ … } [ النحل : 125 ] . ومن أدب النصيحة أيضاً الذي تعلَّمناه من النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون سِرَّاً ، فليس من مصلحة أحد أنْ تُذاعَ الأسرار لأن لها أثراً سلبياً في حياة المجتمع كله وفي المنصوح نفسه ، فإنْ سترْتَ عليه في نصيحتك له كان أدعى إلى قبوله لما تقوله ، وقديماً قالوا : مَنْ نصح أخاه سراً فقد ستره وَزَانَه ، ومَنْ نصحه جَهْراً فقد فضحه وشَانَهُ . ثم يقول تعالى : { وَسَآءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] . والسبيل هو الطريق الموصل لغاية ، وغاية الحياة أننا مُسْتخلفون في الأرض ، خلقنا الله لعمارتها والسعي فيها بما يُسعدنا جميعاً ، ويعود علينا بالخير والصلاح ، فإذا ضَلَّ الإنسانُ وانحرف عَمّا رسمه له ربه أفسد هذه الخلافة ، وأشقى الدنيا كلها بدل أنْ يُسعدها . وأعتقد أن ما نشاهده الآن في بيئات الانحلال والانحراف ، وما امتدَّ منهم إلى بلاد الإسلام من التفزيع والرعب يجعلنا نؤمن بأن الزنا فعلاً ساء سبيلاً ، وساء طريقاً ومسلكاً ، يقضي على سلامة المجتمع وأَمْنه وسعادته . ويكفي أنك إذا خرجتَ من بيتك في مهمة تستلزم المبيت تأخذ جميع لوازمك وأدواتك الشخصية ، وتخاف من شبح العدوى الذي يطاردك في كل مكان ، في الحجرة التي تدخلها ، وفي السرير الذي تنام عليه ، وفي دورة المياه التي تستعملها ، الجميع في رُعْب وفي هلع ، والإيدز ينتشر انتشار النار في الهشيم ، وأصبح لا يسلَم منه حتى الأسوياء الأطهار . وما حدث هذا الفزع إلا نتيجة لخروج الإنسان عن منهج الله خروجاً جعل هذه المسألة فوضى لا ضابطَ لها ، فأحدث الله لهم من الأمراض والبلايا بقدْر فجورهم وعصيانهم ، وما داموا لم يأتُوا بالحسنى فليأتوا راغمين مُفزَّعين . لذلك العالم كله الآن يباشر مشروعات عِفَّة وطهارة ، لا عن إيمان بشرع الله ، ولكن عن خَوْف وهَلَع من أمراض شتَّى لا ترحم ولا تُفرِّق بين واحد وآخر . إذن : الزنا فاحشة وساء سبيلاً ، وها هي الأحداث والوقائع تُثبت صِدْق هذه الآية ، وتثبت أن أيّ خروج من الخَلْق عن منهج الخالق لن يكون وراءه إلا نَكَدُ الدنيا قبل أن ينتظرهم في الآخرة . والآن وقد ضمنَّا سلامة الأعراض ، وضمنَّا طهارة النسل ، وأصبح لدينا مجتمع طاهر سليم ، يأْمَنُ فيه الإنسان على هذا الجانب ، فلا بُدَّ إذن أن نحافظَ فيه على الأرواح ، فلا يعتدي أحد على أحد ، فيقول تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقّ … } .