Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 37-37)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ما زالت الآيات تسير في خطٍّ واحد ، وترسم لنا طريق التوازن الاجتماعي في مجتمع المسلمين ، فالمجتمع المتوازن يصدر في حركته عن إله واحد ، هو صاحب الكلمة العليا وصاحب التشريع . والمتتبع لهذه الآيات يجد بها منهجاً قويماً لبناء مجتمع متماسك ومتوازن ، يبدأ بقوله تعالى : { لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ … } [ الإسراء : 22 ] . وهذه قضية القمة التي لا تنتظم الأمور إلا في ظلّها ، ثم قسّم المجتمع إلى طبقات ، فأوصى بالطبقة الكبيرة التي أدَّت مهمتها في الحياة ، وحان وقت إكرامها وردِّ الجميل لها ، فأوصى بالوالدين وأمر ببّرهما . ثم توجّه إلى الطبقة الصغيرة التي تحتاج إلى رعاية وعناية ، فأوصى بالأولاد ، ونهى عن قتلهم خَوْفَ الفقر والعَوز ، وخَصَّ بالوصية اليتيم لأنه ضعيف يحتاج إلى مزيد من الرعاية والعناية والحنو والحنان . ثم تكلم عن المال ، وهو قوام الحياة ، واختار فيه الاعتدال والتوسُّط ، ونهى عن طرفَيْه : الإسراف والإمساك . ثم نهى عن الفاحشة ، وخصَّ الزنا الذي يُلوِّث الأعراض ويُفسد النسل ، ونهى عن القتل وسَفْك الدماء . ثم تحدث عمَّا يحفظ للإنسان ماله ، ويحمي تعبه ومجهوداته ، فأمر بتوفية الكيل والميزان ، ونهى عن الغش فيهما والتلاعب بهما ، ثم حَثَّ الإنسان على الأمانة العلمية ، حتى لا يقول بما لا يعلم ، وحتى لا يبني حياته على نظريات خاطئة . ألم تَرَ أنه منهج وأسلوب حياة يضمن سلامة المجتمع ، وسلامة المجتمع ناشئة من سلامة حركة الإنسان فيه ، إذن : الإنسان هو مدار هذه الحركة الخلافية في الأرض لذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أنْ يضع له توازناً اجتماعياً . وأوّل شيء في هذا التوازن الاجتماعي أننا جميعاً عند الله سواء ، وكلنا عبيده ، وليس منا مَنْ بينه وبين الله قرابة أو نَسَب ، فالجميع عند الله عبيد كأسنان المشط ، لا فَرْق بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح . وإنْ تفاوتت أقدارنا في الحياة فهو تفاوت ظاهري شكلي لأنك حينما تنظر إلى هذا التفاوت لا تنظر إليه من زاوية واحدة فتقول مثلاً : هذا غني ، وهذا فقير . ومعظم الناس يهتمون بهذه الناحية من التفاوت ، ويَدَعُون غيرها من النواحي الأخرى ، وهذا لا يصح ، بل انظر إلى الجوانب الأخرى في حياة الإنسان ، وإلى الزوايا المختلفة في النفس الإنسانية ، ولو سلكتَ هذا المسلك فسوف تجد أن مجموع كل إنسان يساوي مجموع كل إنسان ، وأن الحصيلة واحدة ، وصدق الله العظيم القائل : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ … } [ الحجرات : 13 ] . وما دام المجتمع الإيماني على هذه الصورة فلا يصح لأحد أنْ يرفعَ رأسه في المجتمع ليعطي لنفسه قداسةً أو منزلة فوق منزلة الآخرين ، فقال تعالى : { وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً … } [ الإسراء : 37 ] . أي : فخراً واختيالاً ، أو بَطَراً وتعالياً لأن الذي يفخر بشيء ويختال به ، ويظن أنه أفضل من غيره ، يجب أن يضمن لنفسه بقاء مَا افتخر به ، بمعنى أن يكون ذاتياً فيه ، لا يذهب عنه ولا يفارقه ، لكن من حكمة الله سبحانه وتعالى أنْ جعل كل ما يمكن أن يفتخر به الإنسان هِبةً له ، وليست أصيلة فيه . كل أمور الإنسان بداية من إيجاده من عدم إلى الإمداد من عُدم هي هبة يمكن أنْ تسترد في يوم من الأيام ، وكيف الحال إذا تكبَّرْتَ بمالك ، ثم رآك الناس فقيراً ، أو تعاليت بقوتك ثم رآك الناس عليلاً ؟ إذن : فالتواضع والأدب أليَقُ بك ، والتكبُّر والتعالي لا يكون إلا للخالق سبحانه وتعالى ، فكيف تنازعه سبحانه صفة من صفاته ؟ وقد نهانا الحق سبحانه عن ذلك لأنه لا يستحق هذه الصفة إلا هو سبحانه وتعالى ، وكَوْنُ الكبرياء لله تعالى يعصمنا من الاتضاع للكبرياء الكاذب من غيرنا . ومَنْ أحب أن يرى مساواة الخَلْق أمام الخالق سبحانه ، فلينظر إلى العبادات ، ففيها استطراق العبودية في الناس ، فحينما يُنادَى للصلاة مثلاً ترى الجميع سواسية : الغني والفقير ، والرئيس والمرؤوس ، الوزير مثلاً والخفير ، الكل راكع أو ساجد ، الكل خاضع لله مُتذلّل لله فقير لله ، الكل عبيد لله بعد أنْ خلعوا أقدارهم ، عندما خلعوا نعالهم ، ففي ساحة الرحمن يتساوى الجميع ، وتتجلى لنا هذه المساواة بصورة أوضح في مناسك الحج . والأهم من هذا أن الرئيس أو الكبير لا يأنف ، ولا يرى غضاضة في أن يراه مرؤوسه وهو في هذا الموقف وفي هذا الخضوع والتذلُّل ، لماذا ؟ لأن الخضوع هنا والتذلُّل لله ، وهذا عين العِزَّة والشرف والكرامة . ثم يقول تعالى : { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً } [ الإسراء : 37 ] . في هذه العبارة نلحظ إشارة توبيخ وتقريع ، كأن الحق سبحانه وتعالى يقول لهؤلاء المتكبرين ، ولأصحاب الكبرياء الكاذب : كيف تتكبرون وتسيرون فخراً وخُيلاء بشيء موهوب لكم غير ذاتي فيكم ؟ فأنتم بهذا التكبُّر والتعالي لن تخرقوا الأرض ، بل ستظل صلبة تتحداكم ، وهي أدنى أجناس الوجود وتُدَاس بالأقدام ، وكذلك الجبال وهي أيضاً جماد ستظل أعلى منكم قامةً ولن تطاولوها . والحق سبحانه وتعالى يُوبِّخ عبده المؤمن المكرم ليبقى له على التكريم في : { وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً … } [ الإسراء : 37 ] . وحينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يُوبِّخ أهل التكبُّر الكاذب أتى بأَدْنى أجناس الوجود بالأرض والجبال وهي جماد لكنه قد يسمو على الإنسان ويفضُل عليه . والناظر لأجناس الكون : الجماد والنبات والحيوان والإنسان ، يجد الإنسان ينتفع بكل هذه الأجناس ، فالجماد ينفع النبات ، والحيوان والنبات ينفع الحيوان والإنسان ، والحيوان ينفع الإنسان ، وهكذا جميع الأجناس مُسخّرة في خدمة الإنسان ، فما وظيفتك أنت أيها الإنسان ؟ ومَنْ تخدم ؟ لا بُدَّ أنْ يكون لك دَوْر في الكون ووظيفة في الحياة ، وإلا كانت الأرض والحجر أفضل منك ، فابحثْ لك عن مهمة في الوجود . وفي فلسفة الحج أمر عجيب ، فالجماد الذي هو أَدْنى الأجناس نجد له مكانة ومنزلة ، فالكعبة حجر يطوف الناس من حوله ، وفي ركنها الحجر الأسعد الذي سَنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبيله وهو حجر ، وعليه يتزاحم الناس ويتشرَّفون بتقبيله والتمسُّح به . وهذا مظهر من مظاهر استطراق العبودية في الكون ، فالإنسان المخدوم الأعلى لجميع الأجناس يرى الشرف والكرامة في تقبيل حجر . وكذلك النبات يحْرُم قطعه ، وإياك أن تمتدَّ يدك إليه ، وكذلك الحيوان يحرُم صَيْده ، فهذه الأشياء التي تخدمني أتى الوقت الذي أخدمها وأُقدِّسها ، وجعلها الحق سبحانه وتعالى مرة في العمر لنلمح الأصل ، ولكي لا يغترَّ الإنسان بإنسانيته ، وليعلم أن العبودية لله تعالى تَسْري في الكون كله . فإياك أيها الإنسان أن تخدش هذا الاستطراق العبوديّ في الكون بمرح أو خُيَلاء أو تعالٍ . ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ … } .