Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 3-3)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ذرية منصوبة هنا على الاختصاص لِقصْد المدح ، فالمعنى : أخصّكم أنتم يا ذرية نوح ، ولكن لماذا ذرية نوح بالذات ؟ ذلك لأننا نجَّيْنَا الذين آمنوا معه من الطوفان والغرق ، وحافظنا على حياتهم ، وأنتم ذريتهم ، فلا بُدَّ لكم أنْ تذكروا هذه النعمة لله تعالى ، أنّ أبقاكم الآن من بقاء آبائكم . فكأن الحق سبحانه يمتنّ عليهم بأنْ نجَّى آباءهم مع نوح ، فليستمعوا إلى منهج الله الذي جَرَّبه آباؤهم ، ووجدوا أن مَنْ يؤمن بالله تكون له النجاة والأمن من عذاب الله . ويقول تعالى : { إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } [ الإسراء : 3 ] . أي : أن الحق سبحانه أكرم ذريته لأنه كان عبداً شكوراً ، والعمل الصالح ينفع ذرية صاحبه ولذلك سنلاحظ ذرية نوح بعنايتنا ، ولن نتركهم يتخبّطون في متاهات الحياة ، وسنرسل لهم الهدى الذي يرسم لهم الطريق القويم ، ويُجنّبهم الزَّلل والانحراف . ودائماً ما ينشغل الآباء بالأبناء ، فإذا ما توفّر للإنسان قُوت يومه تطلّع إلى قُوت العام كله ، فإذا توفّر له قوت عامه قال : أعمل لأولادي ، فترى خير أولاده أكثر من خَيْره ، وتراه ينشغل بهم ، ويُؤثِرهم على نفسه ، ويترقّى في طلب الخير لهم ، ويودُّ لو حمل عنهم كل تعب الحياة ومشاقها . ومع ذلك ، فالإنسان عُرْضَة للأغيار ، وقد يأتيه أجله فيترك وراءه كل شيء ولذلك فالحق سبحانه يدلّنا على وَجْه الصواب الذي ينفع الأولاد ، فيقول تعالى : { وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [ النساء : 9 ] . والحق تبارك وتعالى حينما يُعلّمنا أن تقوى الله تتعدَّى بركتها إلى أولادك من بعدك ، يعطينا مثلاً واقعياً في قصة موسى والخضر عليهما السلام - التي حكاها لنا القرآن الكريم . والشاهد فيها أنهما حينما مرّا على قرية ، واستطعما أهلها فأبَوْا أنْ يُضيّفوهما ، وسؤال الطعام يدل على صِدْق الحاجة ، فلو طلب منك السائل مالاً فقد تتهمه بكَنْزِه ، أما إذا طلب منك رغيفاً يأكله فلا شكّ أنه صادق في سؤاله ، فهذا دليل على أنها قرية لِئَام لا يقومون بواجب الضيافة ، ولا يُقدِّرون حاجة السائل . ومن هنا تعجَّبَ موسى - عليه السلام - من مبادرة الخِضْر إلى بناء الجدار الذي أوشك على السقوط دون أنْ يأخذ أَجْره من هؤلاء اللئام : { فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ ٱسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } [ الكهف : 77 ] . وهنا يكشف الخضر لموسى حقيقة الأمر ، ويُظهِر له ما أطلعه الله عليه من بواطن الأمور التي لا يدركها موسى عليه السلام ، فيقول : { وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ … } [ الكهف : 82 ] . فالجدار مِلْك لغلامين صغيرين لا يقدران على حماية مالهما من هؤلاء اللئام ، ولأن أباهما كان صالحاً سخّر الله لهما مَنْ يخدمهما ، ويحافظ على مالهما . إذن : فِعلّة هذا العمل أن أباهما كان صالحاً ، فأكرمهم الله من أجله ، وجعلهما في حيازته وحفظه . وهنا قد يسأل سائل : ومن أين للغلامين أن يعلما بأمر هذا الكنز عند بلوغهما ؟ والظاهر أن الخضر بما أعطاه الله من الحكمة بنى هذا الجدار بناءً موقوتاً ، بحيث ينهدم بعد بلوغ الغلامين ، فيكونان قادريْنِ على حمايته والدفاع عنه . والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا هذه القضية في آية أخرى فيقول سبحانه : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } [ الطور : 21 ] . فكرامةً للآباء نلحق بهم الأبناء ، حتى وإنْ قَصَّروا في العمل عن آبائهم ، فنزيد في أجر الأبناء ، ولا ننقص من أجر الآباء . وقوله : { إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } [ الإسراء : 3 ] . وشكور صيغة مبالغة في الشكر ، فلم يقل شاكر لأن الشاكر الذي يشكر مرة واحدة ، أما الشكور فهو الدائب على الشكر المداوم عليه ، وقالوا عن نوح عليه السلام : إنه كان لا يتناول شيئاً من مُقوّمات حياته إلا شكر الله عليها . ولا تنعَّم بنعمة من ترف الحياة إلا حمد الله عليها ، فإذا أكل قال : الحمد لله الذي أطعمني من غير حول مني ولا قوة ، وإذا شرب قال : الحمد لله الذي سقاني من غير حول مني ولا قوة ، وهكذا في جميع أمره . ويقول بعض العارفين : ما أكثر ما غفل الإنسان عن شكر الله على نعمه . ونرى كثيراً من الناس قصارى جَهْدهم أن يقولوا : بسم الله في أول الطعام والحمد لله في آخره ، ثم هم غافلون عن نعم كثيرة لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى ، تستوجب الحمد والشكر . لذلك حينما يعقل الإنسان ويفقه نِعَم الله عليه ، ويعلم أن الحمد قَيْد للنعمة ، تجده يعمل ما نُسميّه حَمْد القضاء مثل الصلاة القضاء أي : حمد الله على نعم فاتت لم يحمده عليها ، فيقول : الحمد لله على كل نعمة أنعمتَها عليَّ يا ربّ ، ونسيت أنْ أحمدَك عليها ، ويجعل هذا الدعاء دَأَبه وديدنه . وقد يتعدى حمدَ الله لنفسه ، فيحمد الله عن الناس الذين أنعم الله عليهم ولم يحمدوه ، فيقول : الحمد لله عن كل ذي نعمة أنعمتَ عليه ، ولم يحمدك عليها . ولذلك يقولون : إن النعمة التي تحمد الله عليها لا تُسأل عنها يوم القيامة لأنك أدَّيْتَ حقها من حَمْد الله والثناء عليه . والحمد والشكر وإنْ كان شكراً للمنعم سبحانه وثناء عليه ، فهو أيضاً تجارة رابحة للشاكر لأن الحق سبحانه يقول : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم : 7 ] . فمَنْ أراد الخير لنفسه وأحب أن نواصل له النعم فليداوم على حمدنا وشكرنا . ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ … } .