Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 51-51)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ … } [ الإسراء : 51 ] أي : هاتوا الأعظم فالأعظم ، وتوغّلوا في التحدِّي والبُعْد عن الحياة ، فأنا قادر على أنْ أهبَ له الحياة مهما كان بعيداً عن الحياة على إطلاقها . وقوله : { مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ … } [ الإسراء : 51 ] . يكبر : أي يعظُم مِنْ كَبُر يكْبُر . ومنه قوله تعالى : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ … } [ الكهف : 5 ] أي : عَظُمت . والمراد : اختاروا شيئاً يعظم استبعادُ أن يكون فيه حياة بعد ذلك ، وغاية ما عندهم في بيئتهم الحجارة والحديد ، فَهُما أبعد الأشياء عن الحياة ، وقد اتفقوا على ذلك فليس في محيط حياتهم ما هو أقسى من الحجارة والحديد . ولكن الحق سبحانه وتعالى ارتقى بهم في فَرْضية الأمر إلى أنْ يختاروا وتجتمع نفوسهم على شيء ، يكون أعظمَ استبعاداً من الحجارة والحديد . ونلاحظ في قوله تعالى : { مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ … } [ الإسراء : 51 ] جاء هذا الشيء مُبْهَماً لأن الشيء العظيم الذي يعظُم عن الحجارة والحديد استبعاداً عن أصل الحياة مختلفٌ فيه ، فإن اتفقوا في أمر الحجارة والحديد فقد اختلفوا في الأشياء الأخرى ، فجاءت الآية مُبْهمة ليشيع المعنى في نفس كل واحد كُلّ على حَسْب ما يرى . بدليل أنهم حينما سألوا الإمام علياً - رضي الله عنه ، وكرّم الله وجهه - عن أقوى الأجناس في الكون ، وقد علموا عن الإمام عليّ سرعة البديهة والتمرُّس في الفُتْيَا ، فأرادوا اختباره بهذا السؤال الذي يحتاج في الإجابة عليه إلى استقصاء لأجناس الكون وطبيعة كل منها . دخل عليهم الإمام علي وهم مختلفون في هذه المسألة ، منهم من يقول : الحديد أقوى . ومنهم من يقول : بل الحجارة . وآخر يقول : بل الماء ، فأفتاهم الإمام في هذه القضية ، وانظر إلى دِقّة الإفتاء واستيعاب العلم ، فلم يَقُل : أقوى جنود الله كذا وكذا ثم يكمل كما اتفق له ويذكر ما يخطر بباله ، لا بل حصرها أولاً ، فقال : أشد جنود الله عشرة . فالمسألة ليست ارتجالية ، بل مسألة مدروسة لديه مُسْتَحضرة في ذِهْنه ، مُرتَّبة في تفكيره ، فبسط الإمام لمستمعيه يده وفَردَ أصابعه ، وأخذ يعدّ هذه العشرة ، وكأنه المعلم الذي استحضر درسه وأعدَّه جيداً . قال : " أشد جنود الله عشرة ، الجبال الرواسي ، والحديد يقطع الجبال ، والنار تذيب الحديد ، والماء يطفئ النار ، والسحاب المسخّر بين السماء والأرض يحمل الماء ، والريح يقطع السحاب ، وابن آدم يغلب الريح يستتر بالثوب أو بالشيء ويمضي لحاجته ، والسُّكرْ يغلب ابن آدم ، والنوم يغلب السُّكْر ، والهمّ يغلب النوم ، فأشد جنود الله في الكون الهمّ " . فهذه الأجناس هي المراد بقوله تعالى : { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ … } [ الإسراء : 51 ] فاختاروا أيّاً من هذه الأجناس ، فالله تعالى قادر على إعادتكم وبعثكم كما كنتم أحياء . ثم يقول تعالى : { فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ … } [ الإسراء : 51 ] . أي : أن الذي خلقكم بدايةً قادرٌ على إعادتكم ، بل الإعادة أَهْوَن من الخَلْق بدايةً ، ولكن الجواب لا يكون مُقنِعاً إلا إذا كانت النتيجة التي يأتي بها الجواب مُسلّمة . فهل هم مقتنعون بأن الله تعالى فطرهم أوّل مرة ؟ نعم ، هم مؤمنون بهذه الحقيقة رغم كُفْرهم ، بدليل قولهم : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } [ الزخرف : 87 ] فهم مقتنعون بذلك ، ولكنهم نقلوا الجدل إلى قضية أخرى فقالوا : مَنْ يُعيدنا ؟ فإنْ قلت لهم : الذي فطركم أول مرة . { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ … } [ الإسراء : 51 ] . معنى يُنغِض رأسه : يهزُّها من أعلى لأسفل ، ومن أسفل لأعلى استهزاءً وسخريةً مما تقول ، والمتأمل في قوله { فَسَيُنْغِضُونَ } يجده فِعْلاً سيحدث في المستقبل ويقع من مُختارٍ ، والمقام مقام جَدلٍ بين الكفار وبين رسول الله ، وهذه الآية يتلوها رسول الله على أسماعهم ويخبر أنه إذا قال لهم : { ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ … } [ الإسراء : 51 ] فسينغضون رؤوسهم . فكان في وُسْع هؤلاء أنْ يُكذِّبوا هذا القول ، فلا يُنغِضون رؤوسهم لرسول الله ويمكرون به في هذه المسألة ، ولهم بعد ذلك أنْ يعترضوا على هذا القول ويتهموه ، ولكن الحق سبحانه غالبٌ على أمره ، فها هي الآية تُتْلىَ عليهم وتحْتَ سَمْعهم وأبصارهم ، ومع ذلك لم يقولوا ، مما يدلُّ على غباء الكفار وحُمْق تفكيرهم . وما أشبه هذا الموقف منهم بموقفهم من حادث تحويل القبلة حينما قال الحق سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا … } [ البقرة : 144 ] . ثم أخبره بما سيحدث من الكفار ، فقال : { سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا … } [ البقرة : 142 ] . وهذا قَوْلٌ اختياريّ في المستقبل ، وكان بإمكانهم إذا سمعوا هذه الآية أَلاّّ يقولوا هذا القول ويجدوا بذلك مَأْخَذاً على القرآن ، ولكنهم مع هذا قالوا ما حكاه القرآن لأن الحق سبحانه يعلم أنهم سيقولون لا محالة : { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ … } [ الإسراء : 51 ] . والاستفهام هنا كسابقه للإنكار والتعجُّب الدالّ على استبعاد البعث بعد الموت ، ولاحظ هنا أن السؤال عن الزمن ، فقد نقلوا الجدل من إمكانية الحدث إلى ميعاد الحدث ، وهذا تراجعٌ منهم في النقاش ، فقد كانوا يقولون : مَنْ يُعيدنا ؟ والآن يقولون : متى ؟ فيأتي الجواب : { عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيباً } [ الإسراء : 51 ] . عسى : كلمة تفيد الرجاء ، والرجاء أمر مُتوقّع يختلف باختلاف الراجي والمرجو منه ، فإذا قُلْت مثلاً : عسى فلاناً أنْ يعطيك كذا ، فالرجاء هنا بعيد شيئاً ما لأنه رجاء من غيري لك ، أما لو قلْت : عسى أنْ أُعطيك كذا ، فهي أقرب في الرجاء لأنني أتحدَّث عن نفسي ، وثقة الإنسان في نفسه أكثر من ثقته في الآخرين ، ومع ذلك قد يتغير رأييِّ فلا أعطيك ، أو يأتي وقت الإعطاء فلا أجد ما أعطيه لك . لكن إذا قُلْتَ : عسى الله أن يعطيك فلا شكَّ أنها أقربُ في الرجاء لأنك رجوت الله تعالى الذي لا يُعجِزه شيء في الأرض ولا في السماء . وإنْ كان القائل هو الحق سبحانه وتعالى ، فالرجاء منه سبحانه مُحقَّق وواقع لا شكَّ فيه فالرجاء من الغير للغير رتبة ، ومن الإنسان لغيره رتبة ، ومن الله تعالى للغير رتبة . وقد شرح لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مسألة القرب فقال : " بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين " وأشار بالسَّبابة والوسطى لأنه ليس بعده رسول ، فهو والقيامة متجاوران لا فاصلَ بينهما ، كما أننا نقول : كُلُّ آتٍ قريب ، فالأمر الآتي مستقبلاً قريب لأنه قادم لا محالةَ . ثم يقول الحق سبحانه : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ … } .