Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 61-61)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أي : تذكّروا أن الحسد قديم قِدَم وجود الإنسان على هذه الأرض ، تذكّروا ما كان من أمر آدم عليه السلام وإبليس لعنه الله ، فهي مسألة قديمة ومستمرة في البشر إلى يوم القيامة . والمعنى : واذكُرْ يا محمد ، وليذكر معك قومك إذ قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم . وسبق أنْ تكلمنا عن السجود ، ونشير هنا إلى أن السجود لا يكون إلا لله تعالى ، لكن إذا كان الأمر بالسجود لغير الله من الله تعالى ، فليس لأحد أن يعترض على هذا السجود لأنه بأمر الله الذي يعلم أن سجودهم لآدم ليس عَيْباً وليس قَدْحاً في دينهم وعبوديتهم للحق سبحانه وتعالى لأن العبودية طاعة أوامر . والمراد بالملائكة المدبرات أمراً ، الذين قال الله فيهم : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ … } [ الرعد : 11 ] . وقد أمرهم الله بالسجود لآدم لأنه سيكون أبا البشر ، وسوف يُسخّر له الكون كله ، حتى هؤلاء الملائكة سيكونون في خدمته لذلك أمرهم الله بالسجود له سجودَ طاعة وخضوع لما أريده منكم ، إذن : السجود لآدم ليس خضوعاً لآدم ، بل خضوعاً لأمر الله لهم . وقوله تعالى : { إَلاَّ إِبْلِيسَ … } [ الإسراء : 61 ] . فهِم البعض منها أن إبليس كان من الملائكة ، ونحن نعذر أصحاب هذا الفهم لو عزلنا هذه الآية عن بقية الآيات التي تحدثتْ عن هذه القضية ، لكن طالما نتكلم في موضوع عام مثل هذا ، فيجب استحضار جميع الآيات الواردة فيه لتتضح لنا الصورة كاملة . فإذا كان دليل أصحاب هذا القول : الالتزام بأن الله قال : { فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ … } [ الإسراء : 61 ] وقد كان الأمر للملائكة فهو منهم ، وسوف نُسلِّم لهم جدلاً بصحة قولهم ، لكن ماذا يقولون في قَوْل الحق سبحانه في القرآن الذي أخذوا منه حجتهم : { فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ … } [ الكهف : 50 ] . فإنْ كان دليلكم الالتزام ، فدليلنا نصٌّ صريح في أنه من الجن ، فإنْ قال قائل : كيف يكون من الجن ويُؤاخَذ على أنه لم يسجد ؟ نقول : إبليس من الجن بالنصِّ الصريح للقرآن الكريم ، لكن الحق سبحانه وتعالى آخذه على عدم السجود لآدم واعتبره من الملائكة لأنه كان مطيعاً عن اختيار ، والملائكة مطيعون عن جِبلَّة وعن طبيعة . فبذلك كانت منزلة إبليس أعلى من منزلة الملائكة ، لأنه مختار أن يطيع أو أن يعصي ، لكنه أطاع مع قدرته على العصيان فأصبح جليس الملائكة ، بل طاووس الملائكة الذي يزهو عليهم ويتباهى بأنه صالح للاختيار في العصيان ، ومع ذلك ألزم نفسه منهج الله . فإذا أصبح في منزلة أعلى من الملائكة وأصبح في حضرتهم ، فإن الأمر إذا توجَّه إلى الأدنى في الطاعة فإن الأعلى أَوْلَى بهذا الأمر ، وكذلك إن اعتبرناه أقلّ منهم منزلة ، وجاء الأمر للملائكة بالسجود فإن الأمر للأعلى أمر كذلك للأدنى ، وهكذا إنْ كان أعلى فعليه أن يسجد ، وإنْ كان أدنى فعليه أنْ يسجدَ . وقد ضربنا لذلك مثلاً - ولله المثل الأعلى - إذا دخل رئيس الجمهورية على الوزراء فإنهم يقومون له إجلالاً واحتراماً ، وهَبْ أن معهم وكلاء وزارات فإنهم سوف يقومون أيضاً لأنهم ارتفعوا إلى مكان وجودهم . ومن الإشكالات التي أثارها المستشرقون حول هذا الموضوع اعتراضهم على قول القرآن عن إبليس مرة { أَبَىٰ } ومرة أخرى { ٱسْتَكْبَرَ } ومرة { أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ } ، وكذلك قوله مرة : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ … } [ ص : 75 ] ومرة أخرى يقول : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ … } [ الأعراف : 12 ] . وقد سبق أن تحدثنا عن قصور هؤلاء عن فَهْم أساليب العربية لأنها ليستْ لديهم ملَكَة ، والمتأمل في هذه الأساليب يجدها منسجمة يُكمل بعضها بعضاً . فالإباء قد يكون مجرد امتناع لا عن استكبار ، فالحق سبحانه يريد أن يقول : إنه أبى استكباراً ، فتنوّع الأسلوب القرآني ليعطينا هذا المعنى . أما قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ … } [ ص : 75 ] و { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ … } [ الأعراف : 12 ] . صحيح أن في الأولى إثباتاً وفي الأخرى نفياً ، والنظرة العَجْلَى تقول : إن ثمة تعارضاً بين الآيتين ، مما حمل العلماء على القول بأن لا في الآية الثانية زائدة ، فالأصل { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ … } [ ص : 75 ] . والقول بوجود حروف زائدة في كتاب الله قول لا يليق ، ونُنزّه المتكلم سبحانه أن يكون في كلامه زيادة ، والمتأدب منهم يقول لا حرف وَصْل ، كأنه يستنكف أن يقول : زائدة . والحقيقة أن لا هنا ليست زائدة ، وليست للوَصْل ، بل هي تأسيس يضيف معنى جديداً ، لأن { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ … } [ ص : 75 ] . كأنه همَّ أن يسجد ، فجاءه مَنْ يمنعه عن السجود ، لأنه لا يقال : ما منع من كذا إلا إذا كان لديك استعداد للفعل ، وإلا من أيّ شيء سيمنعك ؟ أما و { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ … } [ الأعراف : 12 ] تعني : ما منعك بإقناعك بأنك لا تسجد ، فالمعنيان مختلفان ، ونحن في حاجة إليهما معاً . ثم يقول تعالى : { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً … } [ الإسراء : 61 ] . والهمزة للاستفهام الذي يحمل معنى الاعتراض أو الاستنكار ، وقد فُسِّرت هذه الآية بآيات أخرى ، مثل قوله تعالى : { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] . فالمخلوقية لله مُتفق عليها ، إنما الاختلاف في عنصر المخلوقية هذا من نار وهذا من طين ، لكن من قال لك يا إبليس : إن النار فوق الطين ، أو خير منه ؟ من أين أتيتَ بهذه المقولة وكلاهما مخلوق لله ، وله مهمة في الكون ؟ وهل نستطيع أن نقول : إن العين خير من الأذن مثلاً ؟ أم أن لكل منهما مهمتها التي لا تؤديها الأخرى ؟ وسبق أنْ قُلْنا مثلاً : إنك تفضل الحديد إنْ كان مستقيماً ، أما إنْ أردتَ خُطَّافاً فالاعوجاج خير من الاستقامة ، أو : أن اعوجاجه هو عين الاستقامة فيه ، فكل شيء في الوجود مخلوق لغاية ولمهمة ، ولا يكون جميلاً ولا يكون خَيْراً إلا إذا أدى مهمته في الحياة ، فمن أين جاء إبليس بخيرية النار على الطين ؟ والنار الأصل فيها الخشب الذي توقد به ، والخشب من الطين ، إذن : فالطين قبل النار وأفضل منه ، فقياس إبليس إذن قياس خاطئ . ومعنى : { خَلَقْتَ طِيناً } [ الإسراء : 61 ] يعني : خلقته حال كونه من الطين ، أو خلقتَه من طين ، والخَلْق من الطين مرحلة من مراحل الخَلْق لأن الخَلْق المباشر له مراحل سبقته . فقوله تعالى : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي … } [ الحجر : 29 ] سبقتْه مراحل متعددة ، قال عنها الخالق سبحانه مرة : من الماء . ومرة : من التراب . ومرة : من طين . والماء إذا خُلِط بالتراب صار طيناً ، وبمرور الوقت يسودُّ هذا الطين ، وتتغير رائحته ، فيتحول إلى حمأ مسنون . وما أشبهَ الحمأ المسنون بما يفعله أهل الريف في صناعة الطوب ، حيث يخلطون الماء بالتراب بالقشِّ ، ويتركونه فترة حتى يختمر ويأكل بعضه بعضاً ، وتتغير رائحته ويعطَن ، ثم يصبُّونه في قوالب . فإذا ما تُرِك الطين حتى يجفّ ، ويتحول إلى الصلابة يصير صَلْصَالاً كالفخَّار ، يعني يُحدث رنّة إذا طرقت عليه . وبعد كل هذه المراحل يقول تعالى : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 29 ] . إذن : لا وَجْه للاعتراض على القرآن في قوله عن خلق الإنسان مرة أنه : من : ماء ، أو من تراب ، أو طين ، أو حمأ مسنون ، فهذه كلها مراحل للمكوّن الواحد . ثم يقول الحق سبحانه : { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ … } .