Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 82-82)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الآية تُعطينا نموذجين لتلقِّي القرآن : إنْ تلقَّاه المؤمن كان له شفاء ورحمة ، وإنْ تلقّاه الظالم كان عليه خَسَار ، والقرآن حَدَّدَ الظالمين لِيُبَيِّن أن ظلمهم هو سبب عدم انتفاعهم بالقرآن لأن القرآن خير في ذاته وليس خساراً . وقد سبق أن أوضحنا أن الفعل قد يكون واحداً ، لكن يختلف القابل للفعل ، ويختلف الأثر من شخص لآخر ، كما أن الماء الزلال يشربه الصحيح ، فيجد له لذة وحلاوة ويشربه العليل فيجده مُرَّاً مائعاً ، فالماء واحد لكن المنفعل للماء مختلف . كذلك أكل الدَّسم ، فإنْ أكله الصحيح نفعه ، وزاد في قوته ونشاطه ، وإنْ أكله السقيم زاده سُقْماً وجَرَّ عليه علة فوق عِلّته . وقد سبق أن أوضحنا في قصة إسلام الفاروق عمر - رضي الله عنه - أنه لما تلقَّى القرآن بروح الكفر والعناد كَرهه ونَفَر منه ، ولما تلقاه بروح العطف والرِّقّة واللين على أخته التي شجَّ وجهها أعجبه فآمن . إذن : سلامة الطبع أو فساده لها أثر في تلقِّي القرآن والانفعال به . وما أشبه هذه المسألة بمسألة التفاؤل والتشاؤم ، فلو عندك كوب ماءٍ قد مُلِئ نصفه ، فالمتفائل يُلفِت نظره النصف المملوء ، في حين أن المتشائم يُلفِت نظره النصف الفارغ ، فالأول يقول : نصف الكوب ممتلئ . والآخر يقول : نصف الكوب فارغ ، وكلاهما صادق لكن طبعهما مختلف . وقد عالج القرآن مسألة التلقِّي هذه في قوله تعالى : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 124 - 125 ] . فالآية واحدة ، لكن الطبع المستقل مختلف ، فالمؤمن يستقبلها بمَلكاتٍ سليمة ، فيزداد بها إيماناً ، والكافر يستقبلها بملكَات فاسدة فيزدادَ بها كفراً ، إذن : المشكلة في تلقّي الحقائق واستقبالها أن تكون ملكاتُ التلقي فاسدة . ومن هنا نقول : إذا نظرتَ إلى الحق ، فإياك أنْ تنظره وفي جوفك باطل تحرص عليه ، لا بُدَّ أن تُخرِج ما عندك من الباطل أولاً ، ثم قارن وفاضل بين الأمور . وكذلك جاءت هذه المسألة في قول الله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ * وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 16 - 17 ] . وقولهم : { مَاذَا قَالَ آنِفاً … } [ محمد : 16 ] دليل على عدم اهتمامهم بالقرآن ، وأنه شيء لا يُؤْبَهُ له . وكذلك في قوله تعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى … } [ فصلت : 44 ] . ومثالٌ لسلامة التلقّي من حياتنا المعاصرة إرسال التلفاز مثلاً ، فقد تستقبله أنت في بيتك فتجده واضحاً في حَلْقة من الحلقات أو برنامج من البرامج ، فتتمتع بما شاهدت ، ثم تقابل صديقاً فيشكو لك سوء الإرسال وعدم وضوح الصورة فيؤكد لك سلامة الإرسال ، إلا أن العيب في جهاز الاستقبال عندك ، فعليك أولاً أن تضبط جهاز الاستقبال عندك لتستقبل آيات الله الاستقبال الصحيح . إذن : قول الحق تبارك وتعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ … } [ الإسراء : 82 ] متوقف على سلامة الطبع ، وسلامة الاستقبال ، والفهم عن الله تعالى . والشفاء : أن تعالج داءً موجوداً لتبرأ منه . والرحمة : أن تتخذ من أسباب الوقاية ما يضمن لك عدم معاودة المرض مرة أخرى ، فالرحمة وقاية ، والشفاء علاج . لكن ، هل شفاء القرآن شفاءٌ معنويٌّ لأمراض القلوب وعِلَل النفوس ، فيُخلِّص المسلم من القلق والحَيْرة والغَيْرة ، ويجتثّ ما في نفسه من الغِلِّ والحقد ، والحسد ، إلى غير هذا من أمراض معنوية ، أم هو شفاء للماديات ، ولأمراض البدن أيضاً ؟ والرأي الراجح - بل المؤكد - الذي لا شَكَّ فيه أن القرآن شفاء بالمعنى العام الشامل لهذه الكلمة ، فهو شفاء للماديات كما هو شفاء للمعنويات ، بدليل ما رُوِي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وأنه خرج على رأس سرية وقد مَرُّوا بقوم ، وطلبوا منهم الطعام ، فأبَوْا إطعامهم ، وحدث أنْ لُدِغ كبير القوم ، واحتاجوا إلى مَنْ يداويه فطلبوا مَنْ يرقيه ، فقالوا : لا نرقيه إلا بجُعْلٍ ، وذلك لما رأوه من بُخْلهم وعدم إكرامهم لهم ، على حَدِّ قوله تعالى : { لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً … } [ الكهف : 77 ] . ولما اتفقوا معهم على جُعل من الطعام والشياه قام أحدهم برقية اللديغ بسورة الفاتحة فبرئ ، فأكلوا من الطعام وتركوا الشياه إلى أنْ عادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسألوه عن حِلِّ هذا الجُعْل فقال صلى الله عليه وسلم : " ومَنْ أدراك أنها رقية " أي : أنها رُقْية يرقى بها المريض فيبرأ بإذن الله ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : " كُلوا منها ، واجعلوا لي سهماً معكم " . فشفاء أمراض البدن شيء موجود في السُّنة ، وليس عجيبة من العجائب لأنك حين تقرأ كلام الله فاعلم أن المتكلم بهذا الكلام هو الحق سبحانه ، وهو رَبّ كل شيء ومليكه ، يتصرّف في كونه بما يشاء ، وبكلمة كُنْ يفعل ما يريد ، وليس ببعيد أنْ يُؤثّر كلام الله في المريض فيشفى . ولما تناقش بعض المعترضين على هذه المسألة مع أحد العلماء ، قالوا له : كيف يُشْفَى المريض بكلمة ؟ هذا غير معقول ، فقال العالم لصاحبه : اسكت أنت حمار ! ! فغضب الرجل ، وهَمَّ بترك المكان وقد ثارت ثورته ، فنظر إليه العالم وقال : انظر ماذا فعلتْ بك كلمة ، فما بالُكَ بكلمة ، المتكلّم بها الحق سبحانه وتعالى ؟ ثم يقول تعالى : { وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] لأنهم بظُلْمهم واستقبالهم فُيوضات السماء بملَكَات سقيمة ، وأجهزة متضاربة متعارضة ، فلم ينتفعوا بالقرآن ، ولم يستفيدوا برحمات الله . ثم يقول الحق سبحانه : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ … } .