Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 83-83)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الله تعالى يريد أن يعطي الإنسان صورة عن نفسه لتكون عنده المناعة الكافية إذا ما أصابه المرض ، كما يعطي الطبيب جَرْعة الطُّعْم أو التحصين الذي يمنع حدوث مرض ما . فهاهي طبيعة الإنسان وسِمَتُه الغالبة ، وعليه أنْ يُخفِّف من هذه الطبيعة ، والمراد أن الإنسان إذا أنعم الله عليه استغنى وأعرضَ . ولكي نُوَضِّح هذه المسألة نُمثِّل لها - ولله المثل الأعلى - بالوالد الذي يعطي للابن مصروفه كل شهر مثلاً ، فترى الولد لا يلتفت إلى أبيه إلا أول كل شهر ، حيث يأتي موعد ما تعوَّد عليه من مصروف ، وتراه طوال الشهر منصرفاً عن أبيه لا يكاد يتذكره ، أما إذا عوَّده على أنْ يُعطيه مصروفه كل يوم ، فترى الولد في الصباح يتعرَّض لأبيه ويُظهِر نفسه أمامه ليُذكِّره بالمعلوم . فالولد حين أعرض عن أبيه وانصرف عنه ، ما الذي دعاه إلى هذا التصرف ؟ لأن الوالد أعطاه طاقة الاستغناء عنه طوال الشهر ، فإنْ كان الابن بارّاً مؤمناً فإنه لا ينسى فَضْل والده الذي وَفَّر له طاقة الاستغناء هذه ، فيُذكِر والده بالخير ، ويحمل له هذا الجميل . فإنْ كان هذا هو الحال مع الرب الأدنى فهو كذلك مع الربِّ الأعلى سبحانه ، فيقول تعالى : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَانِ أَعْرَضَ … } [ الإسراء : 83 ] . أي : أعرض عنا وعن ذِكْرنا وانصرف عن منهجنا ، ومن الناس مَنْ يُعرِض عن ذكر الله ، ولكنه يؤدِّي منهجه ، ولو أدَّى المنهج مع ذكر صاحب المنهج ما نسى المنعم أبداً . وإذا شُغِل الإنسان بالنعمة عن المنعم ، فكأنه يُخطّئ المنعم ، كما قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [ العلق : 6 - 7 ] . فالاستغناء هنا ليس ذاتياً في الإنسان ، بل هو استغناء موهوب ، قد ينتهي في يوم من الأيام ويعود الإنسان من جديد يطلب النعمة من المنعِم سبحانه ، يقول تعالى : { إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰ } [ العلق : 8 ] . ثم يتحدث الحق عن صفة أخرى في الإنسان : { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ كَانَ يَئُوساً } [ الإسراء : 83 ] وهذه صفة مذمومة في الإنسان الذي إذا ما تعرّض لشرٍّ أو مسَّه ضُرٌّ يقنط من رحمة الله ، وكأن الحق سبحانه يخاطب عبده الذي يقنط : لا يليق بك أن تقنط إذا ضاقتْ بك الدنيا ، وأنت مؤمن لا تعيش مع الأسباب وحدها إنما مع المسبِّب سبحانه ، وما دُمْتَ في رحاب مُسبِّب الأسباب فلا تيأس ولا تقنط . لذلك يقولون : " لا كَرْبَ وأنت ربٌّ " ، فيجوز لك القنوط إن لم يكُنْ لك رَبٌّ يتولاَّك ، أما والرب موجود فلا يليق بك ، كيف ومَنْ له أب لا يُلقي لهموم الدنيا بالاً ، ويستطيع أن يعتمد عليه في قضاء حاجاته ، فما بالك بمَنْ له رَبٌّ يرعاه ويتولاَّه ، ويستطيع أن يتوجه إليه ، ويدعوه في كل وقت ؟ والحق سبحانه حينما يُنبِّهنا إلى هذه المسألة يريد أنْ يُعطينا الأُسْوة به سبحانه وتعالى ، يريد أن يقول للإنسان : لا تحزن إن أدَّيْتَ للناس جميلاً فأنكروه ، أو معروفاً فجحدوه ، وكيف تحزن وهم يفعلون هذا معي ، وأنا ربُّ العالمين ، فكثيراً ما أُنعِم عليهم ، ويُسيئون إليَّ ، ويكفرون بي وبنعمتي . وسيدنا موسى - عليه السلام - حينما طلب من ربه تعالى أَلاَّ يُقال فيه ما ليس فيه ، قال له ربه : كيف ، وأنا لم أفعل ذلك لنفسي ؟ ! إنهم يفترون على الله ما ليس فيه ، ويكفرون به سبحانه وينكرون إيجاده ونعمه ، فَمنْ يغضب لقول الكافرين أو إيذائهم له بعد هذا ؟ لكن ، لماذا ييأس الإنسان ويقنط ؟ لأنه في حال النعمة أعرض عن الله ونأى بجانبه : أي ابتعد عن ربه ، لم يَعُدْ له مَنْ يدعوه ويلجأ إليه أن يُفرِّج عنه ضيق الدنيا . إذن : لما أعرض في الأولى يَئِس في الثانية . والله تعالى يجيب مَنْ دعاه ولجأ إليه حال الضيق حتى إنْ كان كافراً ، كما قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ … } [ الإسراء : 67 ] . ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ … } .