Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 88-88)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قُلْ لا يقولها الحق سبحانه بينه وبين رسوله ، بل المراد : أعلنها يا محمد على الملأ ، وأسمِعْ بها الناس جميعاً لأن القضية قضية تَحَدٍّ للجميع . { لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ … } [ الإسراء : 88 ] وهما الثَّقَلان اللذان يكونان أمة التكليف لما منحهما الله من نعمة الاختيار الذي هو منَاطُ التكليف . وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهما جميعاً ، وقد استمعت الجن إلى القرآن كما استمعت إليه البشر : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ … } [ الجن : 1 - 2 ] . والتحدِّي معناه الإتيان بآية معجزة يعجز عنها المعارض ، لكن من جنس ما نبغ فيه المعارض ، فلا يتحدّاهم بشيء لا عِلْم لهم به ، ولا خبرة لهم فيه لأنه لا معنى للتحدي في هذه الحالة ولا جدوى منه ، كما لو تحدَّيْتَ إنساناً عادياً برفع الأثقال ولم يسبق له أن ارتاض هذه الرياضة ، إنما تتحدَّى بها بطلاً معروفاً عنه ممارسة هذه العملية . لذلك جاءت كل معجزات الرسل من جنس ما نبغ فيه القوم ليكون التحدِّي في محلِّه ، ولا يعترضون عليه بأنه خارج عن نطاق علمهم ومقدرتهم ، فكانت معجزة موسى - عليه السلام - العصا واليد ، وهي من جنس ما نبغ فيه قومه من السِّحْر ، وجاءت معجزة عيسى - عليه السلام - إحياء الموتى بإذن الله ، وإبراء الأكمه والأبرص لأن قومه نبغوا في الطب ، وكانت معجزته صلى الله عليه وسلم في البلاغة والفصاحة التي نبغ فيها العرب . وقد اقترح كفار مكة على رسول الله آيات معينة لإثبات صِدْق رسالته ، لكن الآيات لا تُقترح على الله تعالى لأنه سبحانه هو الذي يختار الآيات التي تناسب الطباع وتكون معجزة تثبت صِدْق رسوله ، وقد اقترحوا على رسول الله آيات ومعجزاتٍ في مجالات لا عِلْم لهم بها ، فكيف يتحدّاهم الله في مجال لا نبوغَ لهم فيه ، وليس لهم دراية به ؟ والحق سبحانه أنزل القرآن ، وجعله المعجزة الوحيدة لصدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو المعجزة الوحيدة لكل أمة الإسلام من لَدُن رسول الله إلى قيام الساعة . وهذا لا يمنع أن توجد معجزات كونية حدثتْ لرسول الله ليراها القوم الذين عاصروه ، ومِثْل هذه المعجزات لا نطالب بها نحن ، ولا نطالب بالإيمان بها ، إلا إذا وردتْ من صادق معصوم لأن الهدف من هذه المعجزات تثبيت الإيمان برسول الله في نفوس مَنْ شاهدوها ، فنُبوع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ، وكَوْنُ الشجرة تسعى إليه والحيوان يُكلِّمه ، فالمقصود بهذه المعجزات مَنْ شاهدها وعاصرها ، لا مَنْ أتى بعد عصره صلى الله عليه وسلم . وفي القرآن خاصية تفرّد بها عن الكتب السابقة ، حيث نزل جامعاً بين أمرين : أنه منهج سماوي يُنظِّم حركة الحياة ، وهو في الوقت نفسه معجزة مصاحبة للمنهج لا تنفكّ عنه إلى قيام الساعة . أما الكتب السابقة فكانت تأتي بمنهج فقط ، أما المعجزة فشيء آخر منفصل عن الكتاب ، فمعجزة موسى العصا واليد وكتابه التوراة ، ومعجزة عيسى إبراء الأكمه والأبرص ، وكتابه الإنجيل ، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد انفرد بأن تكون معجزته هي منهجه . لذلك لما طلب كفار مكة من رسول الله أنْ يُفسِح لهم جبال مكة ، ويُوسِّع عليهم الأرض ، وأنْ يُحيي لهم موتاهم ليشهدوا بصدقه ، خاطبهم الحق سبحانه بقوله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ ٱلأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ ٱلْمَوْتَىٰ بَل للَّهِ ٱلأَمْرُ جَمِيعاً … } [ الرعد : 31 ] . أي : كان في القرآن غَنَاءٌ لكم عن كُلِّ هذه المسائل . وقد اعترض المستشرقون على هذه القضية ، فقالوا : إنْ كانت الرسالة المحمدية للناس كافة ، وجاءت معجزته في البلاغة والفصاحة ليتحدَّى بها قومه من العرب ، فما لَوْنُ الإعجاز لغير العرب ؟ نقول : أولاً : إذا كان العرب الذين ارتاضوا على الملَكَة العربية وأساليبها قد عجزوا أمام هذا التحدي ، فغيرهم مِمَّنْ اتخذ العربية صناعة لا شكَّ أعجز . ثانياً : مَنْ قال إن المعجزة في القرآن في فصاحته وبلاغته فقط ؟ لقد جاءت بلاغة القرآن وفصاحته للأمة المتلقِّية للدعوة الأولى ، هؤلاء الذين سيحملون عِبْءَ الدعوة ، ويَسِيحُون بها في شتى بقاع الأرض ، فإذا ما انتشرت الدعوة كانت المعجزة للناس الآخرين من غير العرب شيئاً آخر . فالغيبيات التي يخبرنا بها ، والكونيات التي يُحدّثنا عنها ، والتي لم تكُنْ معلومة لأحد نجدها موافقة تماماً لما جاء به القرآن ، وهو مُنزِّل على نبي أُميٍّ ، وفي أُمة أُميّة غير مثقفة ، فهذه كلها نواحي إعجاز للعرب ولغيرهم ، وما زِلْنا حتى الآن نقف أمام آيات ، وننتظر من العلم أنْ يكشفَ لنا عن معناها . وفي الماضي القريب توصّل العلم إلى أن الذرة أصغر شيء في الوجود ، وقد ذكر القرآن الذرة في مثل قوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 - 8 ] . وبتقدُّم وسائل البحث توصَّلوا إلى تفتيت الذرة أو شطرها ، ووجدنا في الكون ما هو أقل من الذرة ، فظنّ البعض أن هذه لا ذِكْر لها في القرآن ، وظنوا أنهم تصيَّدوا على القرآن مأخذاً ، ولو أمعنوا النظر في كتاب الله لوجدوا لهذا التطور العلمي رصيداً في كتاب الله حيث قال تعالى : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ يونس : 61 ] . والقرآن يقول { أَصْغَرَ } لا صغير ، فلو فتَّتْنَا أجزاء الذرة لوجدنا لها رصيداً واحتياطاً في كتاب الله ، أَلاَ ترى في ذلك إعجازاً ؟ إذن : تحدَّاهم الحق سبحانه بقوله : { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ . . } [ الإسراء : 88 ] وأُدخِل الجنّ في مجال التحدي لأن العرب كانوا يعتقدون أن لكل شاعر نابغ ، أو أديب مُفوَّه ، أو عبقري عنده نبوغ بياني شيطاناً يلهمه ، وهذه الشياطين تسكن وادياً عندهم يسمونه " وادي عَبْقَر " ، لذلك لم يكتَف القرآن بتحديهم هم ، بل تحدى أيضاً مَنْ يُلهمونهم ، أو مَنْ ينسبونَ إليهم القوة في هذا الأمر . ثم يقول تعالى : { عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ … } [ الإسراء : 88 ] فالتحدِّي أنْ يأتوا بمثله لأنه لا يمكن أنْ يأتوا به نفسه لأنه نزل من عند الله وانتهى الأمر ، فمستحيل أنْ يأتُوا به نفسه مرة أخرى لأنْ الواقع لا يقع مرتين . إذن : المتصوَّر في مجال التحدي أنْ يأتوا بمثله ، فلو قلت : هذا الشيء مثل هذا الشيء ، فلا شَكَّ أن المشبّه به أقوى وأصدق من المشبه ، ولا يرتقي المشبه ليكون هو المشبه به بل مثله ، فإذا انتفى المثل فقد انتفى الأصل من باب أَوْلَى . فالحق سبحانه في قوله : { لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ … } [ الإسراء : 88 ] لا ينفي عنهم أن يأتُوا بقرآن ، بل بمثل القرآن ، فإذا كانوا لا يأتون بالصورة ، فهل يقدرون على الأصل ؟ ! ثم يقول تعالى زيادةً في التحدِّي : { وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء : 88 ] . والظهير : هو المعاون والمساعد والمعين على الأمر ، ومنه قوله تعالى : { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [ التحريم : 4 ] . لأنه قد يقول قائل : إن هذه المهمة لا يقوم بها فرد واحد ، فقال لهم سبحانه : بل هاتوا كل ما لديكم من طاقات إبداعية وعبقريات بيانية ، واستعينوا بما تزعمون من إلهام الجن ، وتعاونوا جميعاً في سبيل هذا التحدّي ، حتى إذا كان في أحدكم نقص أكمله الآخر . لكن ، هل ظَلَّ التحدي قائماً على أنْ يأتُوا بمثل القرآن ؟ المتتبع لهذا الموضوع في القرآن الكريم يجد الحق تبارك وتعالى يتنزَّل معهم في القدر المطلوب للتحدِّي ، وهذا التنزُّل يدل على ارتقاء التحدِّي ، فبعد أنْ تحدّاهم بأنْ يأتوا بمثل القرآن ، تحدّاهم بعشْر سُور ، ثم تحدّاهم بسورة واحدة ، وكلما تنزل معهم درجة ارتقى بالتحدي ، فلا شكَّ أن تحديهم بسورة واحدة أبلغ من تحديهم بمثل هذا القرآن . وهذا التنزُّل الذي يفيد الارتقاء كما نجمع مثلاً بين المتناقضات ، فنقول : صعد إلى الهاوية ، وانحدر إلى القمة . ومع هذا التنزُّل لم يستطيعوا الإتيان بمثل آية واحدة من كتاب الله . ويجب أن نلتفت إلى مغزى آخر من وراء هذا التحدّي ، فليس الهدف منه تعجيز القوم ، بل أن نثبت لهم السواسية بين الخَلْق ، فالجميع أمام الإله الواحد سواء ، وهذه هي القضية التي تُزعجهم وتقضّ مضاجعهم ، والقرآن سيثبت لهم صِدْق محمد ، وسيرفع من مكانته بين القوم ، وهم الذين يحاولون إيذاءه ويُدبِّرون لقتله . ولذلك من غبائهم أن قالوا : { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] . إذن : فاعتراضهم ليس على القرآن في حَدِّ ذاته ، بل على محمد الذي نزل القرآن عليه ، فهم يحسدونه على هذه المكانة ، كما قال تعالى : { أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ … } [ النساء : 54 ] . وسبحان الله ، إذا كان الخَلْق يختلفون أمام رحمة الله في مسائل الدنيا التي لهم فيها أسباب وسَعْي واجتهاد ، فكيف بالأمر الذي ليس في أيديهم ؟ كيف يريدون التدخُّل فيه : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ … } [ الزخرف : 32 ] . ثم يتحدث الحق سبحانه عن طبيعة الأداء القرآني ، فيقول : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ … } .