Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 89-89)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

التصريف : هو التحويل والتنويع بأساليب مختلفة لزيادة البيان ، والمراد أن القرآن الكريم لا يعالج القضايا بأسلوب رتيب جامد ، بل يُحوِّل الكلام بين أساليب متعددة لأنه يخاطب طباعاً متعددة ، ويتعرض أيضاً لموضوعات متعددة ومعاني مختلفة ، فلا بُدَّ أن يصرف الأسلوب ويَقلِبه على أكثر من وجه ، فالذي لا يفهم هذه يفهم هذه ، فيعرض المعنى الواحد بأساليب متعددة وأمثال مختلفة . ونأخذ مثالاً على ذلك قضية القمة ، وهي الألوهية ووحدانية الله تعالى ، فنرى القرآن يعرضها في معارض مختلفة هكذا : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا … } [ الأنبياء : 22 ] . أي : في السماء والأرض . وهذا الأسلوب قد لا يفهمه غير العربي لأنه يفتقد الملَكَة اللغوية التي يتلقّى بها كلام الله ، وقد يعترض فيقول : إلا أداة استثناء . فالمعنى : لو كان فيهما آلهة خارج منهم الله لَفَسدتَا ، فلو كانت هناك آلهة ومعهم الله فهذه لا تجوز لأنها مشاركة ، لكنها تفيد أن الله تعالى موجود ، وإنْ كان معه آخرون ، والمنطق في هذه الحالة يقول : لو كان في السماء والأرض آلهة ومعهم الله لا تفسد . لكن الحقيقة أن { إِلاَّ } هنا ليس للاستثناء ، بل هي اسم بمعنى غير . فالمعنى إذن : لو كان فيهما آلهة غير الله لَفسدَتا . ثم يعرضها بأسلوب آخر ، فيقول تعالى : { مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ … } [ المؤمنون : 91 ] . فالحق تبارك وتعالى مُنزّه عن الولد والشريك ، إذ لو كان معه إله آخر لَذهبَ كل إله بما خلق ، واختصّ نفسه بمنطقة معينة ، ولعلا بعضُهم على بعض ، فإن أرادوا إبراز شيء للوجود ، فأيّهما يبرزه ؟ إنْ قدر على إبراز واحد فالآخر عاجز ، وإنْ لم يقدر عليه واحد بمفرده ، فهما عاجزان لا يصلحان للألوهية . ثم يعرض نفس القضية بأسلوب آخر ، فيقول : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] . أي : إنْ كان مع الله آلهة كما يدَّعي المشركون لَذهَب هؤلاء الآلهة إلى ذي العرش يُعاتبونه أو يُؤدِّبونه ، أو يُعاقبونه لأنه انفرد بالملْك من دونهم . وبأسلوب آخر يقول تعالى : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ … } [ آل عمران : 18 ] . ولم يَأْتِ مَنْ ينازعه هذه المكانة ، أو يدَّعيها لنفسه ، إذن : فقد ثبتتْ له هذه القضية إلى أنْ يُوجَد معارض ، فالمختلف فيه يتفق عليه إنْ لم يظهر له معارض . وسبق أن ضربنا لذلك مثلاً ، ولله المثل الأعلى : هَبْ أن جماعة انصرفوا من مجلس ، ثم وجد صاحب البيت حافظة نقود في مكان مجلسهم فعرضها عليهم ، فلم يدَّعها أحد لنفسه إلا رجل واحد قال : هي لي ، أيشكُّ صاحب البيت أنها له ؟ نرى هذا التصريف أيضاً في أسلوب القرآن في مسألة ادعاء أن لله تعالى ولداً ، تعالى الله عَمَّا يقول المبطلون عُلُواً كبيراً ، فيعرضها القرآن هكذا : { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ … } [ التوبة : 30 ] فيردُّ القرآن هذا الزعْم بقوله تعالى : { بَدِيعُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ … } [ الأنعام : 101 ] . وفي موضع آخر يعرض المسألة هكذا : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } [ النحل : 57 ] . أي : فإن كنتم تريدون مقاسمة الخالق سبحانه ، فهل يليق أنْ تأخذوا أنتم البنين لأنهم المفضلون حَسْب زعمكم ، وتتركون له تعالى البنات : { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } [ النجم : 21 - 22 ] أي : قسمة جائرة . وهكذا يُصرِّف القرآن أسلوبه ، ويُحوّله ليقنع به جميع العقول ليناسب كل الطباع . وتمتاز لغة العرب بالمثل والحكمة لذلك كان من التصريف في أسلوب القرآن استخدام المثل ، وهو تعبير مُوجَز ، يحمل المعاني الكثيرة وتتعشق لفظه ، وتقوله كما هو دون تغيير إذا جاءت مناسبته . فإذا أرسلتَ أحداً في مهمة أو جماعة ، فيمكنك حين عودتهم تقول لهم مستفهماً : ماذا وراءكِ يا عصام ؟ هكذا بصيغة المؤنثة المفردة ، لأن المثل قيل هكذا ، حيث أرسل أحدهم امرأة تسمى عصام لتخطب له إحدى النساء وحينما أقبلت عليه خاطبها بهذه العبارة ، فصارت مثلاً . وكما تقول لصاحبك الذي يتعالى عليك : إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً إذن : المثل يمتاز بأنه يثبت على لفظه الأول ولا يتغير عنه . أما الحكمة فهي : قول شارد يقوله كل واحد ، وهو كلام يقلُّ لفظه ، ويجِلُّ معناه . كما تقول : " رُبَّ أخ لك لم تَلِدْهُ أمك " . " لا تُعلِّم العَوانُ الخِمْرة " . " إن المنبتَّ لا أرضاً قطع ، ولا ظهراً أبقى " أي : أن الذي يُجهِد دابته في السير لن يصل إلى ما يريد لأنها ستنقطع به ولا تُوصِّله . ومن الحكمة هذه الأبيات الشعرية التي صارت حكمة متداولة : @ وَمَنْ يكُ ذا فَمٍ مُــرٍّ مَريضٍ يَجِدْ مُرّاً بِهِ المَاءَ الزُّلاَلاَ @@ وقوله : @ وَأَتْعَس النَّاسِ حَظَّاً مَنْ تكونُ لَه نَفْسُ الملُوكِ وحالاتُ المسَاكين @@ وهَبْ أن ولدك أهمل دروسه طوال العام وعند الامتحان أخذ يجدّ ويَجْتهد ويُرهِق نفسه ، هنا يمكنك أن تقول له : قبل الرماء تُملأُ الكنائن والكنانة هي المخلاة التي تُوضَع بها السهام ، وهذه لا بُدَّ أنْ يُعِدّها الصياد قبل صَيْده لا وقت الصيد . إذن : لأهمية المثل في لغة العرب جعله القرآن لَوْناً أسلوبياً ، وأداةٍ للإقناعٍ ، كما في قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا … } [ البقرة : 26 ] . لأن الله تعالى يخاطب بالقرآن عقولاً مختلفة وطبائع متعددة لذلك لا يستحي أن يضرب المثل بأحقر مخلوقاته لِيُقنِعَ الجميع كُلاً بما يناسبه . وقوله : { فَمَا فَوْقَهَا } قد يقول قائل : ولماذا قال { فَمَا فَوْقَهَا } ، فالعجيب هنا مسألة الصِّغَر ؟ نقول : المراد بما فوقها . أي : في المعنى المراد ، وهو الصِّغر . أي : ما فوقها في الصِّغر لا أكبر منها . ثم يأتي بالمعنى في صورة أخرى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ } [ الحج : 73 ] . وفي آية أخرى يقول سبحانه : { مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ ٱلْبُيُوتِ لَبَيْتُ ٱلْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 41 ] . إذن : يُصرِّف الله الأمثال ويُحوِّلها ليأخذ كل طَبْع ما يناسبه وما يقتنع به ، وليس القرآن على وتيرة واحدة أو مزيج واحد يعطي للجميع . بل يُشخّص الداءات ويُحلِّلها ويعالجها بما يناسبها لذلك يأتي الأسلوب مختلفاً . وهذه المسألة واضحة في الحديث النبوي الشريف ، حيث كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم السؤال الواحد ، وتأتي الإجابة مختلفة من شخص لآخر ، فقد سُئِل صلى الله عليه وسلم كثيراً : " ما أفضل الأعمال يا رسول الله ؟ فقال للسائل : " الصلاة لوقتها " . وقال لآخر : " بر الوالدين " وقال لآخر : " أنْ تلقىَ أخاك بوجه طَلْق " . وهكذا جاءت الإجابة مختلفة من شخص لآخر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي حال سائله ، ويحاول أنْ يعالج نقطة الضعف فيه ، فالأمر ليس أكلشيه ثابتاً يعطيه للجميع ، بل هي مراعاة الأحوال والطباع . ثم يقول تعالى : { فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } [ الإسراء : 89 ] . نعرف أن إلاّ أداة استثناء ، تُخرِج ما بعدها من حكم ما قبلها ، كما تقول : جاء القوم إلا زيداً ، ولو طبَّقْنَا هذه القاعدة على الآية لا يستقيم معناها ، كما لو قلت : ضربت إلا زيدا ، والآية أسلوب عربي فصيح . نقول : لأن معنى أبى : لم يقبل ولم يَرْضَ ، فالمراد : لم يَرْضَ إلا الكفور ، فلا بُدَّ للاستثناء المفرّغ أنْ يُسبق بنفي . ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا … } .