Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 8-8)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
و عَسَى حَرْف يدلّ على الرجاء ، وكأن في الآية إشارةً إلى أنهم سيظلون في مذلّة ومَسْكنة ، ولن ترتفع لهم رأس إلا في ظِلِّ حبل من الله وعَهْد منه ، وحبل من الناس الذين يُعاهدونهم على النُّصْرة والتأييد والحماية . وقوله : { رَبُّكُمْ … } [ الإسراء : 8 ] . انظر فيه إلى العظمة الإلهية ، ورحمة الرب سبحانه الذي ما يزال يخاطب الكافرين الملحدين المعاندين لرسوله ، وهو آخر رسول يأتي من السماء ، ومع ذلك كله يخاطبهم بقوله : { رَبُّكُمْ … } [ الإسراء : 8 ] . لأن الربّ هو المتولّي للتربية والمتكفّل بضمان مُقوّمات الحياة ، لا يضنّ بها حتى وإنْ كان العبد كافراً ، فالكلُّ أمام عطاء الربوبية سواء : المؤمن والكافر ، والطائع والعاصي . الجميع يتمتع بِنعَم الله : الشمس والهواء والطعام والشراب ، فهو سبحانه لا يزال ربَّهم مع كل ما حدث منهم . وقوله تعالى : { أَن يَرْحَمَكُمْ … } [ الإسراء : 8 ] . والرحمة تكون للإنسان إذا كان في موقف يستحق فيه الرحمة ، واليهود لن تكون لهم دولة ، ولن يكون لهم كيان ، بل يعيشون في حِضْن الرحمة الإيمانية الإسلامية التي تُعطي لهم فرصة التعايش مع الإسلام معايشة ، كالتي كانت لهم في مدينة رسول الله ، يوم أن أكرمهم وتعاهد معهم . وقد وصلتْ هذه المعايشة لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أنْ يقترضَ لا يقترض من مسلم ، بل كان يقترض من اليهود ، وفي هذا حكمة يجب أنْ نعيهَا ، وهي أن المسلم قد يستحي أن يطالب رسول الله إذا نسى مثلاً ، أما اليهودي فسوف يُلِحّ في طلب حقِّه وإذا نسى رسول الله سَيُذكّره . لذلك كان اليهود كثيراً ما يجادلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُغالطونه مِرَاراً ، وقد حدث أن وفَّى رسول الله لأحدهم دَيْنه ، لكنه أنكره وأتى يطالب به من جديد ، وأخذ يراجع رسول الله ويغالطه وينكر ويقول : ابْغِني شاهداً . ولم يكن لرسول الله شاهد وقت السداد ، وهكذا تأزّم الموقف في حضور أحد الصحابة ، واسمه خزيمة ، فهَبَّ خزيمة قائلاً : أنا يا رسول الله كنت شاهداً ، وقد أخذ هذا اليهودي دَيْنه ، فسكت اليهودي ولم يرد ولم يجادل ، فَدل ذلك على كذبه . ويكاد المريب أن يقول : خذوني . لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اختلى بخزيمة بعد أن انصرف الدائن قال : يا خزيمة ما حملك على هذا القول ، ولم يكن أحد معنا ، وأنا أقضي لليهودي دَيْنه ؟ فضحك خزيمة وقال : يا رسول الله أَأُصدِّقُك في خبر السماء ، وأُكذِّبك في عِدّة دراهم ؟ فَسُرَّ رسول الله من اجتهاد الرجل ، وقال : " مَنْ شهد له خزيمة فحَسْبه " . ثم يُهدِّد الحق سبحانه بني إسرائيل ، فيقول : { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا … } [ الإسراء : 8 ] . إنْ عُدتُّم للفساد ، عُدْنا ، وهذا جزاء الدنيا ، وهو لا ينجيكم من جزاء الآخرة ، فهذه مسألة وتلك أخرى حتى لا يفهموا أن العقاب على الذنوب في الدنيا يُبرّئهم من عذاب الآخرة . فالعقوبة على الذنب التي تُبرّئ المذنب من عذاب الآخرة ما كان في حِضْن الإسلام ، وإلاَّ لاَسْتوى مَنْ أقيم عليه الحدّ مع مَنْ لم يُقمْ عليه الحد . فلو سرق إنسان وقُطِعَتْ يده ، وسرق آخر ولم تُقطع يده ، فلو استَووْا في عقوبة الآخرة ، فقد زاد أحدهما عن الآخر في العقوبة ، وكيف يستوي الذي قُطِعَتْ يده . وعاش بِذلّتها طوال عمره مع مَنْ أفلت من العقوبة ؟ هذا إنْ كان المذنب مؤمناً . أما إذا كان المذنب غير مؤمن فالأصل الذي بنينا عليه هذا الحكم ضائع لا وجودَ له ، وعقوبة الدنيا هنا لا تُعفي صاحبها من عقوبة الآخرة لذلك يقول تعالى بعدها : { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } [ الإسراء : 8 ] . { جَعَلْنَا } فِعْل يفيد التحويل ، كأن تقول : جعلت العجين خبزاً ، وجعلت القطن ثوباً ، أي : صيَّرْتُه وحوَّلْتُه . فماذا كانت جهنم أولاً فيُحوّلها الحق سبحانه حصيراً ؟ قوله تعالى : { جَعَلْنَا } في هذه الآية لا تفيد التحويل ، إنما هي بمعنى خَلَقْنا ، أي : خلقناها هكذا ، كما نقول : سبحان الذي جعل اللبن أبيض ، فاللبن لم يكن له لون آخر فحوَّله الله تعالى إلى البياض ، بل خلقه هكذا بداية . ومعنى : { حَصِيراً … } [ الإسراء : 8 ] . الحصير فراش معروف يُصنع من القَشِّ أو من نبات يُسمى السَّمُر ، والآن يصنعونه من خيوط البلاستيك ، وسُمِّي حصيراً ، لأن كلمة حصير مأخوذة من الحَصْر ، وهو التضييق في المكان للمكين ، وفي صناعة الحصير يضمُّون الأعواد بعضها إلى بعض إلى أنْ تتماسكَ ، ولا توجد مسافة بين العود والآخر . لكن لماذا نفرش الحصير ؟ نفرش الحصير لأنه يحبس عَنّا القذَر والأوساخ ، فلا تصيب ثيابنا . إذن : الحصر معناه المنع والحبس والتضييق . والمتتبع لمادة حصر في القرآن الكريم يجدها بهذه المعاني ، يقول تعالى : { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ … } [ التوبة : 5 ] أي : ضَيِّقوا عليهم . وقال تعالى في فريضة الحج : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ … } [ البقرة : 196 ] أي : حُبِسْتم ومُنِعْتم من أداء الفريضة . إذن : فقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } [ الإسراء : 8 ] . أي : تحبسهم فيها وتحصرهم ، وتمنعهم الخروج منها ، فهي لهم سجن لا يستطيعون الفرار منه لأنها تحيط بهم من كل ناحية ، كما قال تعالى : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا … } [ الكهف : 29 ] . فلا يستطيعون الخروج ، فإنْ حاولوا الخروج رُدُّوا إليها ، كما قال تعالى : { كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا … } [ السجدة : 20 ] . وفي قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } [ الإسراء : 8 ] . إشارة إلى أنهم كانوا إذا أجرموا في الدنيا يحتمُون في أنصارهم وأتباعهم من الأقوياء ، ويدخلون في حضانة أهل الباطل ، أما في الآخرة فلن يجدوا ناصراً أو مدافعاً . يقول تعالى : { مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ ٱلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } [ الصافات : 25 - 26 ] . وبعد أن تكلّم الحق سبحانه عن الإسراء بالرسول الخاتم الرحمة ، وجَعْله آيةً يمكن إقامة الدليل عليها ، حيث خرق له الناموس في أمور يعلمها قومه ، فإذا جاءت آية المعراج وخرَق له الناموس فيها لا يعلمه القوم كان أَدْعى إلى تصديقه . ثم أوضح الحق سبحانه أن عبودية محمد صلى الله عليه وسلم لربه هي التي أعطتْه هذه المنزلة ، وكذلك كان نوح - عليه السلام - عبداً شكوراً ، فهناك فَرْق بين عبودية الخَلْق للخالق ، وعبودية الخَلْق للخَلْق لأن العبودية للخَلْق مذمومة ، حيث يأخذ السيد خيْر عبده ، أما العبودية لله فالعبد يأخذ خَيْر سيده . ثم تحدَّث الحق سبحانه عن بني إسرائيل ، وما وقعوا فيه من إفساد في الأرض ، فأعطانا بذلك نماذج للأعمال لمن أحسن ولمن أساء ، وكُلٌّ له عمله دون ظُلْم أو جَوْر . لذلك ينقلنا السياق القرآني إلى بيان المنهج الإلهي المنزّل من السماء ليوضح عبودية الإنسان لربه ، وكيف يكون عبداً مُخْلِصاً لله تعالى ، فيقول الحق سبحانه : { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ … } .